من بين كُثر، زملاء وأصدقاء ومعارف، كتبوا عن الأستاذ محمد حسنين هيكل، استوقفني ما كتبه زميلي ومواطني، عماد شقور، عنه بعد رحيله.
بعد أن التقى عرفات وقادة فلسطينيين بالأستاذ هيكل في عزبته، استأذن هيكل من عرفات باستبقاء شقور في ضيافته يوماً، لاستكمال نقاش معه، لم يفصح شقور عن موضوعه، ولي الظن أنه حول آراء شقور في جوانب من الموضوع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، باعتباره خبيراً فيه، لنشأته في الجليل، وانضمامه إلى م.ت.ف، فقد كان أحد مستشاري عرفات في شؤون إسرائيل.
كما هو معروف، في سيرة ومسار هيكل، فقد بدأ مهنة الصحافة مراسلاً حربياً لمعارك الحلفاء مع دول المحور التي دارت في برّ مصر، إبان الحرب العالمية الثانية.
لعلّ هذا سبباً من أسباب استبقاء الزميل هيكل للزميل شقور، فهو من فلسطينيي الجليل الذين عملوا في صفوف م.ت.ف. كثير من الصحافيين الفلسطينيين حملوا السلاح!
عاد شقور ليكتب في «القدس العربي» مقالات أسبوعية متميزة في الشأن الإسرائيلي الجاري، في ضوء معرفته بالصهيونية واليهودية وتاريخهما الأيديولوجي والديني.
ماذا يمثل هيكل بالنسبة لي؟ إنه يفوقني عمراً بعقدين ونيّف، وفي غير العمر يفوقني في مهنة الصحافة، فقد كنت مواظباً في حقبة من عمري على قراءة وسماع مقالاته الأسبوعية، وبخاصة «بصراحة» قبل أن يخطّ قلمي شيئاً في هذه المهنة، التي لم أدرسها كمهنة، بل بدأتُ فيها كمهمة، شأني في هذا شأن كثير من كوادر م.ت.ف، الذين رفدوا الصحافة الفلسطينية في البلاد بعد أوسلو.
كما تعرف، فالصحافيون والإعلاميون اللبنانيون هم روّاد ومؤسّسو الصحافة المصرية المعاصرة، بما فيها «الأهرام» و»الهلال» و»روز اليوسف» منذ القرن التاسع عشر.
الأستاذ هيكل هو «عميد» الصحافيين العرب، لكن للصحافة اللبنانية عمداءها، وأبرزهم في رأيي هو ميشال أبو جودة، الذي كان رئيس تحرير «النهار» اللبنانية ويكتب فيها تعليقه اليومي «من حقيقة النهار».. وهو أبرز «أساتذتي».
كان لهيكل نفوذه ودوره السياسي، بخاصة في مرحلة عبد الناصر، أما أبو جودة فكان له دور سياسي لبناني، حيث كانت مشاورات تأليف حكومات ورؤساء بلاده تجري في مكتبه.
الصحافة لغة وأسلوب، أيضاً، وتمتاز الصحافة اللبنانية على المصرية في هذا، كما تمتاز مقالات أبو جودة مهنياً على مقالات هيكل فيهما، وهذه تميل للتطويل والإسهاب و»الحشو» والاستعراض، ما يجعلها تجمع المقالة إلى الرأي إلى التاريخ إلى الحوار.. إلى الشهادة على العصر.. إنها نوع من الأدب الصحافي ـ السياسي.
قلت إنني كنتُ قارئاً لهيكل، وامتهنت الصحافة كمهمة لا كمهنة، وصرتُ زميلاً «مزاملاً» لهيكل، لكن من المفارقات أنني لم أزر مصر إلاّ في العام 2014، وأشدّ مفارقات زيارتي القصيرة أنني لم أرَ نهر النيل ولا الأهرامات، ولا حتى الأستاذ هيكل.
في اليوبيل الذهبي لاتحاد الصحافيين العرب منحوا أوسمة لبعض الصحافيين، أبرزهم هيكل، وأقلهم بروزاً أنا. هو اعتذر عن استلام الوسام لمشاغل خارجية، وآخر ما قرأت له هو تسويغ أسباب اعتذاره عن استلام الوسام شخصياً، ولم تقنعني أسبابه، ولم أرَ فيها غير الإسهاب المعتاد في أسلوبه، كما لا أرى في كتبه قدرة مهنية فائقة على التحرير، الموجودة لدى أساتذتي في المدرسة الصحافية اللبنانية.
نعم، هو «الأستاذ» وأنا القارئ الذي صار «زميلاً» له في التكريم، لكنها زمالة غريبة، وأقرب وصف لها ما قاله لاعب كرة سلة أميركي متواضع: جون وأنا سجلنا 65 هدفاً، هو 64 هدفاً وأنا هدف واحد!
في الثمانين كتب هيكل عن حق العمر «أستأذنكم في الانصراف» وعاش حتى الـ93 سنة، وأنا استأذنت بالتوقف عن العمود اليومي في عمر الـ71.
إذا كان هيكل يكتب خطابات عبد الناصر فأذكر له ما قاله ناصر بعد انفصال سورية عن مصر «أعان الله سورية على أمورها، وسدّد خطاها، وبارك شعبها..».
هذا في العام 1961، لكن ينسب إلى هيكل قوله، بعد الفوضى السورية: «حافظوا على الأسد من ذئاب الربيع العربي». هذا رأي، وذاك رأي، و»الرأي قبل شجاعة الشجعان».