القاهرة - تونس اليوم
لا ينشغل البشر بتخيل أنفسهم دون يدين، إذ لطالما كان وجودهما أمر بديهي. على الطرف الآخر، قد تعجز اللغة عن وصف حياة من يفتقدهما، وكيف له أن يتعايش مع الاستثناء في كل لحظة منها: في نومه ويقظته، أكله وشربه، في الحب والعناق، والإيماء وبلاغة التعبير.. لا بل حتى أن (حك الأنف) على تفاهته كممارسة انعكاسية، يعد شيئا عزيزا لمن لا يستطيعه.
دعاء، وهي التي استيقظت على الدنيا لتجد نفسها بلا يدين، كان مقدرا لليأس أن يعجز عن مواجهة رغبتها الجارفة في التعويض عنهما.منذ طفولتها، تعايشت دعاء مع الصعوبات التقليدية الناجمة عن افتقادها طرفيها العلويين، إلا أنها لم تكتف بذلك، فقد وجدت في قدميها بديلاً ناجعاً، فبعد أن تمكنت من القيام بأعمال المنزل وتحضير الطعام، بدأت تبدي اهتماماً بالرسم مذ كانت طالبة في المرحلة الابتدائية، كل ذلك جرى بمساندةٍ من شقيقتها التي هيأت لها المناخات المناسبة.
بدأت دعاء تحترف فن الرسم، لكن باستخدام قدميها، وقد أتيحت لها فرصة المشاركة في مشاريع ومعارض فنية عديدة داخل وخارج سورية.بعد ذلك، وخلال وبعد دراستها الجامعية في كلية الفنون الجميلة بدمشق، استطاعت أن تصقل تجربتها وتضيف إليها أنماطاً جديدة من الرسم والتشكيل، وأن تبدأ بإقامة المعارض الفردية والمشاركة في معارض جماعية وأن تثبت للجميع أن من يملك الإرادة لا يعرف المستحيل.
البداية في "أدهم إسماعيل"
الشابة السورية دعاء البسطاطي، عن هذه المسيرة وكيف أنها تغلبت على كل المصاعب لتحقق حلمها في النهاية فقالت: "ولدت بدون يدين وكان ذلك أمراً عادياً بالنسبة لي، ثم التحقت بمدرسة الأمل للمعاقين جسدياً، وخلال ذلك كنت أستخدم قدمي في كل شيء؛ فقد تعلمت الكتابة وفي الثانية عشرة من عمري بدأت أتعلم الرسم من خلال حصص الرسم في المدرسة، وكانت شقيقتي تشجعني في المنزل وتؤمن لي صور أطفال كي أقوم برسمها، أحببت هذه الموهبة لأنني استطعت من خلالها أن أعبر عن شيء في داخلي لم أكن أعبر عنه بالكلام، ثم دخلت مركز أدهم إسماعيل في عمر 13 سنة كي أطور موهبتي وخلال دراستي في هذا المركز شاركت في عدة مشاريع فنية داخل سوريا وخارجها، وتم تكريمي من قبل السيدة أسماء الأسد حين نجحت في شهادة التعليم الثانوي وبدأت أطمح للدخول إلى كلية الفنون الجميلة وفعلتها وبدأت أقدم مشاريعي الفنية بنجاح".
الرسم العكسي على الزجاج
وتابعت: "تخرجت من الكلية بمشروع يعبر عن حياتي يتحدث عن أهمية اليدين في حياة الإنسان وتوقفت عن الرسم لفترة محدودة ثم عدت للمشاركة في المشاريع والمعارض وبطريقة رسم جديدة تعلمتها في الكلية وهي الرسم العكسي على الزجاج، وأقمت أول معرض لي منذ حوالي أربع سنوات، كان معرضاً مشتركاً في المركز الثقافي العربي بأبي رمانة في دمشق، وبعدها انطلقت بعدة معارض جماعية وأربعة معارض فردية منها معرض في دار الأوبرا وآخر في حلب، وتم تكريمي من قبل وزارة الثقافة من خلال مهرجان بلودان الثقافي، كما شاركت في مهرجان ريف دمشق وفي معارض الربيع والخريف السنوية وفي عدة معارض مشتركة، أما خارجياً فقد شاركت بمشاريع من خلال مركز أدهم إسماعيل حيث سافرت إلى أوكرانيا عام 2005 وإلى بريطانيا والأردن عام 2008 وخلال هذه المشاركات مع طلاب من أوكرانيا وبريطانيا والأردن وعبر ورش عمل كنا نقوم بالرسم في مدرسة من المدارس، وفي آخر يوم من كل ورشة كنا نقيم معرضاً مشتركاً".
أبيع لوحاتي لأنجز أخرى
وعن مدى صعوبة استخدام قدميها في أعمال المنزل قالت البسطاطي: "منذ بداياتي كنت أستخدم قدمي في الأكل والشرب ومع مرور الوقت أصبحت أساعد أختي في أعمال المنزل وفي إعداد الطعام وتقشير وتقطيع الخضروات ولاحقاً في الرسم وكأنني أستخدم يدي تماماً، ولم أكن أشعر أن ثمة صعوبة بل على العكس كان الرسم أسهل شيء عندي، وكانت أختي تقف إلى جانبي طوال الوقت منذ صغري وحتى اليوم، وهي التي شجعتني على الرسم وكانت ترافقني إلى المدرسة والمركز والكلية طيلة السنوات الطويلة الماضية وهي التي شجعتني وتقدم لي المشورة في أمور كثيرة".
وعن حصيلة أعمالها قالت: "اللوحات التي أنجزتها خلال أربع سنوات بالرسم العكسي على الزجاج كانت بحدود 30 لوحة تتحدث عن الطبيعة والحارات الدمشقية وحالياً لدي 40 لوحة تتحدث عن حياة الفتاة وماذا تفعل حين تكبر، ومنذ أول معرض فردي لي قمت ببيع لوحات إذ لا يمكنني إنجاز لوحات جديدة إلا إذا استطعت تأمين مواد ومستلزمات الرسم، وفي كل معرض كنت أقوم ببيع لوحات حتى أتمكن من إنجاز أشياء جديدة، وخلال كل معرض كان هناك أناس يرون أعمالي ويطلبون مني لوحات خاصة، كما كان هناك من يدعوني لإقامة معارض مشتركة، وأنا اليوم أطمح للوصول إلى العالمية وأتمنى أن أقيم معارض فردية خارج سوريا".
ليس العاجز من يحمل العصا
دعاء لا ترى مانعاً في خوض تجارب جديدة وقالت: "هذا ممكن فسابقاً كنت أرسم فقط بقلم الرصاص وبالألوان، وبعد دخول الجامعة تعلمت الرسم العكسي على الزجاج ونجحت فيها وإذا سمعت عن فكرة جديدة مؤكد أني سأجربها".وعما يمكن أن تقوله لمن فقدوا أجزاء من أجسادهم لاسيما خلال الحرب في سوريا التي امتدت على مدى عشر سنوات قالت البسطاطي: "كل ما أقوم به هو رسالة، ليس فقط لكل شخص عنده نقص في شكله الخارجي أو ما يسمونه "المعاق" بل هي رسالة لكل المجتمع، صحيح أنه ليس لدي يدين لكن لدي قدمين واستطعت بهما أن أفعل كل شيء". وأردفت: "الشخص عندما يفقد شيئاً في جسمه سيعوضه الله عنه بشيء آخر، الحياة لم تتوقف بالعكس هي جميلة ويجب أن نعيشها، ومنذ صغري كان لدي مقولة "ليس العاجز ذلك الذي يحمل العصا بل هو من لا يستطيع تحدي الحياة"، أنا تحديت صعوبة الحياة وحققت الكثير من الأحلام والآن حلمي هو تحقيق العالمية وسوف أحققها وكل شخص لديه أحلام يجب أن يحلم بها ويحققها".
قد يهمك ايضا
"بصوت عالٍ" رؤى فنية تحكي اضطرابات العالم العربي
تقرير يرصد فتح المتاحف الأوروبية لكن الجمهور لا يأتي
أرسل تعليقك