دهاء الشعوب

دهاء الشعوب

دهاء الشعوب

 تونس اليوم -

دهاء الشعوب

مصطفى الفقي

الشعوب، كما الأفراد، تتميز بخصائص معينة تختلف من بلد لآخر، ورغم أن التعميم خطيئة، وأن فى كل مجتمع استثناءات تختلف عنه إلى أننا نستطيع أن نقول إن المصرى ذكى وطيب، وإن اليابانى صادق ومنظم، وإن الألمانى صارم وحازم، وإن الفرنسى انفعالى وحالم، وإن البريطانى عميق ومحافظ، وهذه ليست أحكاما نهائية، ولكنها ملاحظات عامة نستقيها من ظواهر تاريخية أو من مشاهد عصرية.

ولقد قالوا إن حادث سيارة قد وقع فى منطقة فى غرب «أوروبا»، وكان شهوده ثلاثة أشخاص: ألمانى، وفرنسى، وبريطانى، فهرول الألمانى لإبلاغ الشرطة، وأسرع الفرنسى لإبلاغ الإعلام، بينما مضى البريطانى فى طلب سيارة الإسعاف. وتلك قصة يرويها البعض للإشارة إلى «سيكولوجية» الشعوب ونمطية الاختلاف بينها، حتى إن كانت فى إطار واحد. والذى يهمنى هنا أن بعض الشعوب تتسم بالدهاء الذى قد لا يتصف به معظم أبناء شعب آخر، فالآسيوى لديه مخزون من الدهاء لا يتوافر لدى الأفريقى، كما أن الأوروبى يمكن أن يملك أعماقاً بعيدة فى تكوينه النفسى والعاطفى، بينما لا يتوافر ذات الأمر للأمريكى الذى يعانى من عقدة التاريخ القصير، ويلهث وراء التراث فى كل مكان. إننى أكتب هذه الكلمات اليوم، كى أدلل على النقاط التالية:

أولاً: إن الإنسان هو الإنسان فى كل زمان ومكان، يفرح لما يسعده، ويحزن لما يؤدى إلى تعاسته. فالضحك لغة عالمية. والابتسامة مظهر إنسانى. والبكاء لا تختلف عليه الشعوب. والمذاق الحلو تلتقى عنده معظم الأذواق. وملح الطعام يكاد يكون قاسماً مشتركاً على موائد البشر. هذه دلالات صغيرة للمكون الأكبر- العقل الإنسانى الذى يبحث عن المصلحة، ويتجنب الضرر، ويتأرجح بين الإيثار والأنانية، وبين الشجاعة والجبن، بل إن المخلوقات البشرية وغير البشرية تفر من الخطر، وتسعى نحو الأمان.

ولقد اكتشفت من خلال تجوالى فى مناطق مختلفة من العالم أن «المحبة» مفتاح السحر بين البشر، وأن الكلمة الطيبة تمنع شراً، وتجلب خيراً، ورغم كل ذلك فإن هناك صفات تسود بين بعض الشعوب، فنحن نقول مثلا: إنه بريطانى متحفظ، وإن هذا أمريكى لا يهتم بالتقاليد، أما الرفيق الصينى، فلا يخلو أحياناً من غموض. إنها سنة الحياة وطبيعة البشر، ولقد جاء فى الذكر الحكيم «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».

ثانياً: إن الذى أوحى لى بكتابة هذا المقال هو أننى عشت فى «الهند»، ولمست قدراً من الدهاء الطيب لدى الشعب الهندى، كما أوحى لى مؤخراً الاتفاق الإطارى المبدئى حول الملف النووى الإيرانى بأن «الفرس» لا يفتقدون الدهاء، ولا تنقصهم القدرة على المناورة، بل المراوغة أحياناً، وليس ذلك عيباً فى شعب معين، ولكنه يمكن أن يكون ميزة فيه وقيمة له، ونحن فى «مصر» نفتقد الدهاء السياسى، وتعوزنا إلى حد كبير مهارات التفاوض، خصوصاً فى القضايا التجارية والمالية. فالمصرى فلاح بفطرته، بينما الشامى تاجر بطبيعته، والمصرى مفرط الذكاء، ويتصور أن ذكاءه وحده هو الحل لكل المشكلات، وليس ذلك صحيحاً، فالعمل والجهد عاملان رئيسان لتحقيق الأهداف على المستوى الفردى والجماعى، وإذا كانت كلمة «فهلوة» اللصيقة بالشخصية المصرية لا تجد لها ترجمة فى كلمة واحدة فى كل لغات الأرض، فهى تعنى محاولة إحلال الذكاء أو التذاكى، بديلاً عن المجهود المطلوب فى أمر معين. وعندما أقف عند «ميكانيكى» السيارات أجدنى أمام العبقرية المصرية، فالعامل لا يخضع للتركيبة الفنية التى أمامه، ولكنه يحاول ابتكار حلول وعمل توليفة للإصلاح، وربما ينجح فى الوصول إلى ما هو أفضل، ولكن مشكلة المصرى الحقيقية هى أنه يفتقد النظام فى العمل والتنظيم فى استغلال الوقت مع الميل الدائم إلى الهزل أحيانا، حتى فى أوقات العمل. ولو أن المصرى تعلّم فلسفة العمل الجاد فى إطار الفريق الواحد، وأدرك فلسفة ذلك، وهى التى أدت إلى نجاح شعوب كثيرة بدأت معنا من نقطة البداية أو حتى بعدنا. لو أن المصرى تعلم ذلك ما تفوق عليه أحد.

ثالثاً: إن روح العصر، وتجارب الأمم، وتنافس الشعوب- قد أدت فى معظمها إلى احتدام الصراع فى أنحاء المعمورة، وبرزت بالتالى خصائص جديدة وصفات لم تكن معروفة لجماعات بشرية معينة، خصوصاً فى ظل التفوق الكاسح فى وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، فالعالم الذى أصبح قرية كونية بمنطق «العولمة» هو ذاته العالم الذى لا تختفى منه حقيقة، ولا تحجب عنه معلومة، ولا يموت فيه خبر، لذلك فإن دراسة طبيعة الشعوب وخصائص الأمم لا تقف عند حدود علم «النفس السياسى»، ولكنها تتجاوز ذلك إلى استكشاف كافة العلوم والمعارف والآداب والفنون.

هذه نقاط سعينا لإبرازها والطرق على أبوابها، لأنها قد تكون مؤشراً لبعض مشكلاتنا وسبيلاً لفهم المعضلات التى تواجه المشهد المصرى الراهن.. ليت المصريين يتعلمون شيئاً من دهاء الشعوب الأخرى مع قدرة على المناورة التى تستخدم فيها الذكاء الفطرى فيما يفيد بدلاً من العبث المستمر والسخرية الدائمة. إننا أبناء أعرق الحضارات وأرقى الثقافات، ولا يجب أن نكون أبداً فى غير طليعة الأمم، بل نكون فى مقدمة الشعوب دهاء وذكاء وفطنة!.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دهاء الشعوب دهاء الشعوب



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:47 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الدلو الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:38 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج القوس الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 14:13 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العقرب الخميس 29 -10 -2020

GMT 14:08 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج العذراء الخميس 29-10-2020

GMT 15:33 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 18:18 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الأسد الاثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 16:31 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

فرص جيدة واحتفالات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 18:23 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر مع تنافر بين مركور وأورانوس
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia