مصطفى الفقي
بدأت أقلّب فى حوار ذاتى صامت ما قاله الرئيس «باراك أوباما» فى «خطاب الاتحاد» منذ أيام، وصدمتنى عبارته بأن تنظيم «داعش» لا يمثل خطرًا على «الولايات المتحدة الأمريكية»، وشعرت وكأن أقوى دولة فى العالم المعاصر تتنصل من مسؤوليتها الدولية وتنأى بنفسها عن المشاركة فى ضرب «الإرهاب» ومقاومته والإسهام فى تخليص البشرية من شروره، بل جاءنى خاطر خبيث مؤداه أن الذى صنع «الإرهاب» ودعمه لن يخشى منه ولن يقاومه، ولقد كنت أستقبل مسؤولًا أمريكيًا منذ أيام وعبرت له عن قلقى مما ذكره رئيس بلاده فى «خطاب حالة الاتحاد»، فقال لى: ربما يريد الرئيس «أوباما» أن يطمئن الرأى العام الأمريكى وأن يعطيه جرعة من الثقة فى مواجهة الخطر الداهم لجرائم «الإرهاب»، فقلت له: إذا كان تحليلك صحيحًا إلا أن الرسالة التى وصلت إلى الشعوب المختلفة- خصوصًا تلك التى تعانى من وطأة الأعمال الإرهابية- كانت غير ذلك، فهى رسالة مقلقة تنطوى ضمنًا على إشارة تتساهل مع «الإرهاب» وتقلل من مخاطره، فهى رسالة طمأنة لتنظيم «داعش» أكثر منها رسالة طمأنة للشعب الأمريكى، وتكمن خطورة الرسالة الأمريكية فى أنها تأتى من قمة السلطة فى «واشنطن» وقبيل الدخول فى السنة الأخيرة لسيد «البيت الأبيض»، وهنا يبدو الرئيس «باراك أوباما» وكأنه يختتم فترة رئاسته، مقللًا من خطر «الإرهاب»، مطمئنًا الشعب الأمريكى بغير مبرر، خصوصًا أن «الإرهاب» لا دين له ولا وطن ويمكن أن يضرب فجأة فى أى موقع، ألم يضرب فى قلب «باريس»؟ ألم يضرب فى وسط العاصمة الإندونيسية «جاكرتا»؟ ألم يقم مؤخرًا بمغامرة دامية فى «بوركينا فاسو»؟ لذلك فإننى لا أخفى قلقى الزائد من التحول الفكرى الذى طرأ على الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس «أوباما» تجاه «الإرهاب»، رغم تزايد حدته واتساع نطاق عملياته، ويبدو لى وكأن «الإرهاب» هو قنبلة موقوتة تلقى بها القوى الكبرى على المناطق التى تريد تدميرها أو إحداث التغيير فيها، ولا أريد أن أفترض سوء النية أو أن أكون أسيرًا لنظرية المؤامرة، ومع ذلك فإننى لا أجد تفسيرًا مريحًا لما عبر عنه الرئيس الأمريكى فى خطابه المشار إليه، وأظن أن سياسة دولة عظمى يجب أن تأخذ بالأحوط وأن تتصرف وفقًا للحد الأقصى من المخاطر دون تهويل، ولكن دون تهوين أيضًا، بل إن السياسة الخارجية للدول الناهضة فى عصرنا تتصرف دائمًا وفقًا للسيناريو الأسوأ وليس العكس، إننى فى هذا الحوار الصامت أطرح نقاطًا ثلاثا ذات أهمية فى تفسير ما ذكره الرئيس الأمريكى تفسيرًا موضوعيًا ومحايدًا وهى:
أولًا: يرى فريق من الخبراء المتابعين لتنامى الظاهرة الإرهابية أن دخول «الولايات المتحدة الأمريكية» على الخط يعطى التنظيمات الإرهابية فرصة ذهبية للنمو والازدهار، ويستند أصحاب هذا الرأى إلى ما جرى فى «أفغانستان» و«العراق»، حيث كان التدخل الأمريكى هو الأب الشرعى لتنامى الظاهرة الإرهابية فى هذين البلدين، وواقع الأمر أن هذه الحجة مردود عليها لأنها تمثل مهربًا للأمريكيين فى تعاملهم مع المنطقة دون أن تقع عليهم أى لائمة فى تجاهل جرائم «داعش» وأخواتها، بل إن هذا المبرر الذى تسوقه «واشنطن» هو تأكيد داخلى لأهمية ما تردد حول دعم مستتر- مالى وتسليحى ولوجستى- قدمته دول مختلفة لتنظيم «داعش» الذى ظهر فجأة على الساحة بقوة متزايدة بعد شهور قليلة من تسرب أخبار عن صناعة «الإرهاب» لأهداف تحقق مكاسب لقوى أخرى على حساب الأرض العربية والشعوب الإسلامية.
ثانيًا: برعت الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس «أوباما» فى تطوير مفهوم جديد للتعامل مع «الإرهاب»، يقوم على أن يتحول الصراع إلى صدام ذاتى، بحيث يضرب الاعتدال الإسلامى التطرف الدينى أو يحدث العكس، ولا مانع من أن يبقى «الغرب» متفرجًا فى الحالتين، ولعل فلسفة «أوباما» التى بشر بها منذ وصوله إلى «البيت الأبيض» هى التى انعكست على الموقف الأمريكى كما هو حادث الآن، وهو الذى يتجلى فى الجنوح السلبى الذى ظهرت مؤشرات له فى «خطاب حالة الاتحاد» الذى قرأه رئيس «الولايات المتحدة الأمريكية».
ثالثًا: إن رسالة «أوباما» هى بمثابة جرس إنذار يدق لكى يلفت الأنظار إلى حقيقة أنه لن يدافع عن الأرض إلا أصحابها، ولن يحمى «الإسلام» ولا العروبة إلا أتباعهما المخلصون، من هنا ننتظر من «البرلمان الجديد» فى مصر أن يكون عينًا للدولة، لأننا بلد عريق وعرف الحياة البرلمانية بالمفهوم الغربى منذ ما يقرب من مائة وخمسين عامًا، لذلك يجب أن نبرع فى توزيع الأدوار، بحيث يصبح مجلس النواب المصرى داعمًا لصانع القرار يمهد له ويدافع عنه فى المحافل الإقليمية والدولية.
إن ما جاء على لسان الرئيس «أوباما» مؤخرًا قد فتح الباب لتأويلات وتفسيرات قد لا نصل إلى فهم سريع لها، إذ إن الأمر يحتاج إلى مراجعة مع المسؤولين عن السياسة والإعلام فى الإدارة الأمريكية الحالية، وأرجو أن يكون فى تفسيرنا نوع من الشطط، وأن «واشنطن» سوف تظل فى المواجهة مع حلف عالمى للتصدى للجرائم الإرهابية فى كل مكان، فالعالم وحدة واحدة ونحن جميعًا فى قارب واحد نبحث عن مخرج من مأزق العنف الذى يهدد الإنسانية والحضارة والأجيال القادمة.