أرتاد «معرض القاهرة الدولى للكتاب» بانتظام منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حتى أننى عندما كنت سفيراً فى «فيينا» اتصل بى الراحل الدكتور «سمير سرحان»، رئيس «هيئة الكتاب»، يبلغنى بدعوة المعرض للحضور إلى «القاهرة» من أجل اللقاء الفكرى السنوى الذى دأبت عليه لأكثر من خمسة عشر عاماً متصلة، وقد زرت المعرض هذا العام للمشاركة فى عدد من فعالياته، ودعانى الأستاذ «رضا صالح»، مدير عام «وكالة الأهرام للتوزيع»، لزيارة أجنحة «الأهرام» وهى تكاد تكون الأضخم فى المعرض كله، فاستجبت لدعوته شاكرًا، وكانت المفاجأة أن أحضر لى الأستاذ «منصور البحيرى»، إخصائى التوثيق فى «مركز التنظيم وتكنولوجيا المعلومات» (الميكروفيلم)، هدية لا تُقدر بثمن لأنها كانت مفاجأة رائعة لى بإحضار «صحيفة الأهرام» فى يوم مولدى فى 14 نوفمبر 1944، الذى اكتشفت أنه كان يوم ثلاثاء، يوافق 28 ذى القعدة 1363 هجرية، و5 (هاتور) من عام 1661 قبطية، حيث كانت السنة السبعين من عمر «الأهرام»، ويحمل العدد رقم 21489، وكان سعر الصحيفة 10 مليمات، ورئيس التحرير هو الأستاذ «أنطون الجميل»، وكان مقر «الأهرام» الرئيسى هو 14 شارع «مظلوم باشا» بـ«القاهرة»، وبدأت أتصفح الصحيفة فى نهم لأعرف الحالة النفسية والبيئة السياسية والمناخ الدولى فى يوم مولدى، ذلك أن الزمان هو الأب الشرعى للإنسان، يرى فيه مرآة حاضره بل وصورة مستقبله، لذلك فإن رائحة التاريخ تجعل المرء يتلمس الأوراق القديمة وكأنما يصافح ماضيه أو يتحدث إلى أبيه، ولقد لفتت نظرى أخبار دولية وإقليمية فى أهرام يوم الميلاد، رأيت أن أضع القارئ فى أجوائها ومن أهمها:
أولًا: الجيش الأمريكى الثالث بقيادة الجنرال «باتون» يحتل قلعة ألمانية كبيرة فى تحول واضح لمسار الحرب العالمية الثانية.. وذلك يعنى أننا كنا فى الشهور الأخيرة لتلك الحرب قبل الحسم النهائى لها وانتصار الحلفاء وتقسيم «ألمانيا النازية» واحتلالها، إنها أيام مشهودة من تاريخ القرن العشرين.
ثانيًا: «تشرشل» و«إيدن» يبحثان مع «الجنرال ديجول» موقف «فرنسا» من «سوريا» و«لبنان».. وهنا نرى تكريسًا لنتائج «سايكس بيكو» التى جرت فى غضون الحرب العالمية الأولى، وكأن الحلفاء يراجعون من جديد مناطق النفوذ فى العالم العربى، بل وربما فى الشرق الأوسط كله، للوصول إلى نتائج توافقية بينهم لتحديد ملامح المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية ومعاناتها المؤلمة، حتى أن «تشرشل» رئيس وزراء «بريطانيا» قد خاطب شعبه ذات يوم قائلًا: «ليس أمامنا إلا الدم والعرق والدموع»، فالحرب قمة المأساة فى التاريخ الإنسانى كله، وهنا نلاحظ أن «الجنرال ديجول» كان هو الوجه الشرعى لـ«فرنسا» مع تراجع الألمان وسقوط الحكومة التى كانت موالية لهم فى «باريس».
ثالثًا: شائعات تتردد حول الحالة الصحية لـ«هتلر» بعد تأجيل الاحتفال بذكرى الثورة الألمانية، ووكالة الأنباء الألمانية تقول إن «هتلر» بصحة جيدة وقد ذكر فى آخر خطاب له أنه ليس لحياته وحده أهمية، وسوف يظل يواصل حتى آخر نفس فى حياته.. ويلاحظ أن هذه الكلمات هى دائمًا التى يرددها الطغاة عبر التاريخ كله، إذ إن بين «الأنظمة الديكتاتورية» قواسم مشتركة فى كل زمان ومكان، وعبارات رنانة لشراء مشاعر الناس واستجداء عواطفهم، وقد نشرت الصحيفة تعليقًا على الخبر يشير إلى قدرة «هتلر» على الخطابة التى تشبه تأثير «التنويم المغناطيسى» على الشعب الألمانى.
رابعًا: قوات المارشال «تيتو» تقاتل فى شوارع «تيرانا» عاصمة «ألبانيا» فى وقت يواصل فيه الجنرال الكرواتى الأصل، صاحب المواقف المستقلة، والذى واجه «ستالين» فى عز جبروته، يواصل ذلك الرجل زحفه فى منطقة «البلقان» فى محاولة للمسح الشامل قبيل انتهاء الحرب العالمية، وهو نفسه «جوزيف بروز تيتو» الذى شارك «عبدالناصر» من «مصر» و«نهرو» من «الهند» فى تأسيس «حركة عدم الانحياز» بعد منتصف القرن الماضى.
خامسًا: اعتقال الكونت «دى بارى» وهو يحاول دخول «فرنسا» مطالبًا بالعرش، وإصابته بجرح فى كتفه عند القبض عليه، وقد أنكر المسيو «أدريان تيكسبيه» وزير داخلية «فرنسا» علمه بهذا الأمر، والمعروف أن هناك قانونا فرنسيا صدر عام 1886 يحرم دخول «فرنسا» على رؤساء الأسر الملكية وعلى أكبر أولادهم سنًا.
سادسًا: توالت المعارك حول «بودابست» فى «المجر» أثناء ذلك الأسبوع من شهر نوفمبر عام 1944، وانتصر المشاة الروس فى معارك مهدت لسيطرة نظام «ستالين» على «شرق أوروبا» بما أدى إلى ميلاد المعسكر الشيوعى فيما بعد.
سابعًا: تذكر الصحيفة أن الحكومة العراقية قد أطلقت سراح عدد من المعتقلين السياسيين، وهو ما يشير دائمًا إلى أن الاعتقال السياسى ظاهرة عربية! ولقد كان هذا الخبر منذ أكثر من سبعين عامًا تأكيدًا لهذه الحقيقة التاريخية فى ذلك السياق.
ثامنًا: ذكرت الصحيفة المصرية وفى ذات اليوم حدوث عملية سطو كبيرة على أحد مصانع «قطع الماس» فى «تل أبيب»- قبل قيام «إسرائيل» بالطبع- وقدرت السرقة الضخمة بمبلغ 20 ألف جنيه، وهو مبلغ يبدو كبيرًا فى ذلك الوقت!
تاسعًا: تقرر الصحيفة المصرية الأولى فى ذلك اليوم انتهاء محادثات «باريس» بين «بريطانيا» و«فرنسا»، وعودة مستر «إيفن» وزير الخارجية إلى «لندن»، وإعلان «راديو باريس» أن «فرنسا» سوف تشارك مع الحلفاء فى إدارة الأراضى التى يجرى احتلالها فى «ألمانيا» قرب سقوطها النهائى.
عاشرًا: يوجد إعلانان فى الصفحة الأولى، الإعلان الأول عن هدية فاخرة لثلاث «زجاجات كولونيا» إنتاج «الشبراويشى» مجموع سعرها 90 قرشًا، وإعلان لشركة سويسرية للتأمين تحت اسم «الهلفيسيا» وعنوانها 39 ش قصر النيل بـ«القاهرة».
الحادى عشر: ذكرت الصحيفة فى ذلك اليوم أيضًا أن الجيش الأمريكى الأول يسترد الأراضى التى كانت «ألمانيا» قد استعادتها «جنوب شرق أكس لا شابل» وهو الاسم الفرنسى لمدينة «أخن» الألمانية، وقد اكتسبت هذه المدينة شهرة من معاهدة «أكس لا شابل» المعروفة فى تاريخ القانون الدولى.
الثانى عشر: ذكرت الصحيفة أيضًا أن البطاريات الألمانية التى كانت تواجه الجيش الثالث الأمريكى قد تراجعت وتجرها خيول قبل وقت من وصول القوات الأمريكية فى محاولة لإنقاذ ما بقى من جيش «هتلر» قبل سقوطه فى يد الحلفاء، وهنا يتأكد لنا أن «صحيفة الأهرام» هى بحق «ديوان الحياة المعاصرة».
لا تبدو أهمية ما ذكرت من ارتباطها بصحيفة «يوم مولدى»، ولكن القيمة الحقيقية هى التعرف على صحافة ذلك الزمان، خصوصًا أن التوقيت قد جاء مع نهاية «الحرب العالمية الثانية»، فى فترة مفصلية فى تاريخ العلاقات الدولية التى تؤرخ لانتصار «الحلفاء» على «دول المحور» قبيل معركة «بيرل هاربور» وقنبلتى «هيروشيما» و«ناجازاكى» وقبل قيام «الأمم المتحدة» أيضًا.. إنها سنوات لا تُنسى فى تاريخ البشرية، وهو يوم لا يُنسى فى حياتى لأنه يوم أن وُلدت.. تحية للتقدم «التكنولوجى» الذى جعل الحصول على المعلومة أمرًا يسيرًا فى كل وقت.