مصطفي الفقي
يعلق بعض المسؤولين فى مكاتبهم خلف رؤوسهم لافتة تقول «لو دامت لغيرك ما آلت إليك» فى تواضع مصطنع يوحى بزهد صاحب المنصب فيما هو فيه رغم أنه أحرص الناس عليه! فالسلطة داء عضال إذا استبدت بشخص أحالت حياته إلى قفزات بهلوانية وتصرفات استعراضية مع رغبة جموح فى الأضواء الدائمة وليس ذلك غريباً ولا جديداً فقد عشقها الأقدمون وتعلق بها الآباء والأجداد، وعندما حاول «معاوية بن أبى سفيان» أن يقنع الداهية «عمرو بن العاص» بأن غايته من الخلافة والحكم هى خدمة الإسلام والمسلمين ردّ عليه «عمرو»: (أنت وأنا نعلم أنها لدنيا نريدها!) ولقد أثبتت دراسات التحليل النفسى ورأى خبراء العلوم السلوكية أن السلطة «شهوة» قد تفوق لدى طالبها الغريزتين الأساسيتين، وقد حكى أحد وزراء خارجية «فرنسا» للدكتور «بطرس بطرس غالى» أن تركه المنصب يعنى نهايته، فالوزير قد تعود على الحارس والسائق والسكرتيرة والتحيات والاحترامات وعبارات النفاق وقبلات العناق ويكفى أن ترى مسؤولاً كبيراً أو وزيراً يدخل أحد الأفراح أو حتى المآتم لترى السباق إليه والتهافت على لفت نظره والاندفاع لمصافحته، ولأننا ورثة «الفراعين» فإن للسلطة حجماً متزايداً يؤدى إلى تضخم الأنا وإحساس من يحوزها بأنه «حالة خاصة» ميزه الله بما حرم منه الآخرين فكراً وعلماً وذكاءً بل ومهارة وخبرة بينما لا يعدو الأمر أن يكون السبب هو فقط اختيار ولى الأمر الذى يخضع غالباً للمعرفة المباشرة أو الهوى الشخصى، وقليلاً ما يكون الاختيار لأسباب موضوعية أوتأتى المفاضلة بين المرشحين للمنصب الواحد فى حياد وتجرد، لذلك يشعر معظم المسؤولين فى بلادنا بنقص الإحساس بالأمان وينتابهم قلق مع كل تغيير وقديماً قالوا «لقد أذل الحرص أعناق الرجال» فعندما ينسحب المنصب وتشحب الأضواء يكاد النسيان أن يطوى المسئول السابق ما لم تكن لديه مقومات ذاتية يعتمد عليها وينطلق منها، والغريب فى بلادنا أن كل مسؤول يحاول تسفيه من سبقه وانتقاد سلفه كما ينظر حوله ليميز أولئك الذين يمكن أن يكونوا ورثة له فى منصبه فيطيح بهم ويشتت مواقعهم لذلك انعدم الصف الثانى فى كثير من الوزارات والمرافق وأصبحنا نتحدث عن ظهور «الوزير التاريخى» أو «المسؤول الدائم» نتيجة حالة الفراغ التى تحيط بالمواقع بسبب تلك «الدودة الشريطية الفرعونية» التى تعبث بأجساد معظم المسؤولين، ولنا هنا ملاحظتان هما:
1- إن الحكام يبدأون عهودهم فى نقاء واضح وطهارة وشفافية وتواضع، فلقد شاهدنا الرئيس الراحل «السادات» فى أول أسبوع من حكمه يدفع برئيس وزرائه الدبلوماسى المخضرم «محمود فوزى» ليسبقه فى دخول قاعة الاجتماعات، كما أننا نتذكر الحكمة المأثورة التى رددها الرئيس «مبارك» فى بداية حكمه «ليس للكفن جيوب»، وأنا أظن أن كلا الرئيسين كان صادقاً فى لحظة البداية، فالرئيس «السادات» كان حاكماً متواضعاً يكره الظلم وهو صاحب العبارة التاريخية التى وجهها للسيد «عمر التلمسانى» المرشد الثالث لجماعة «الإخوان المسلمين» عندما قال له (اسحب شكواك يا عمر) بعدما هدده المرشد الراحل بأن يشكوه إلى الله، أما «مبارك» فقد غلبت عليه روح التوازن ورغم أنه شخصية عنيدة بالطبيعة إلا أنه لم يكن انتقامياً فى معظم الأحوال، ويبقى «عبدالناصر» زعامة شامخة وقدوة باقية لحاكم عاش فقيراً ومات لا يملك شيئاً، وها نحن نستقبل رئيساً جديداً عائداً من رحلة دولية ناجحة رفع فيها رؤوسنا وهتف لوطنه فى الجمعية العامة «للأمم المتحدة»، بدايته تبشر بالخير وتاريخه يوحى بالثقة ولكننا نردد دائماً ما غناه «عبدالحليم حافظ» (ياخوفى من آخر المشوار)، وأنا أظن أن تدين «السيسى» سوف يعصمه من السقوط فى المظالم ويدفعه لمحاربة الفساد ويبعده عن شهوة الاستبداد.
2- إن المسافة بين السلطة واللاسلطة فى المجتمعات المتحضرة تبدو قصيرة والمساحة بينهما محدودة ولا أنسى عندما كنت سفيراً فى «فيينا» أجلس فى المقعد الخلفى للسيارة عندما لفت سائقى الباكستانى نظرى إلى السيارة المجاورة التى يجلس فيها المستشار النمساوى «رئيس الوزراء» إلى جانب سائقه، ومازلت أتذكر أن إشارة المرور هى التى جعلتنى أتأمل ذلك الموقف الرائع لعدة دقائق والرجل لا يتملل برغم سلطته ولا يشعر «بهيلمان» أو سطوة وذلك ليس خلقاً غربياً فقط ولكنه مستمد من المبادئ النبيلة للديانات السامية، فالمسلمون الأوائل كانوا مثل نبيهم «يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق»، أما النصارى «فهم لا يستكبرون» وفقاً للذكر الحكيم فى القرآن الكريم، ليتنا نتعلم الدرس ونعى أن الديمومة لله وحده وأن الخلود لذاته دون غيره.
فلا تصعِّر ـ أيها المسؤول ـ خدك للناس ولا تمش فى الأرض مرحاً واعلم أنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً.. ياليت قومى يعلمون.