مصطفى الفقي
عندما يتحدث المرء عن أحد أمراء الخليج وشيوخها فينبغى أن يكون حذرًا، لأن شبهة العطايا تجعل الناس يكتبون خارج السياق ويحركون الأقلام لتجرى بالثناء، ولكننا اليوم بصدد نموذج مختلف وأعنى به حاكم الشارقة الشيخ د.«سلطان محمد القاسمى» المعروف بحبه لـ«مصر» حيث درس، وعشقه لشعبها حيث عاش عدة سنوات ففهم الشخصية المصرية كما لم يفهمها غيره، وتواصل معها بغير انقطاع وأحال إمارته إلى واحة ثقافية لا نظير لها فى المنطقة وجعلها بحق «عاصمة الثقافة العربية»، والثقافة الحقيقية تزدهر حين يطوّع أصحاب الثروة ما يملكون لخدمة تلك الثقافة، ولدينا نموذج شهير لعائلة «عبدالرازق» فى «صعيد مصر» عندما استخدموا ثروتهم لخدمة العلم والثقافة فظهرت أعلامهم من «حسن عبدالرازق» إلى «على عبدالرازق» ثم «مصطفى عبدالرازق» وغيرهم من أبناء تلك «الدوحة المصرية» المتميزة، ولقد عرفت من سنوات عملى سفيرًا فى «فيينا» كيف تتحول مقار الشركات والبنوك كل مساء إلى منارات ثقافية ومعارض فنية، فالأصل فى التقدم هو توظيف الثروة لخدمة الثقافة وتلك هى الدلالة الحقيقية لـ«أرستقراطية الفكر» التى تتحول فى النهاية إلى خدمة عامة للناس، ولا أعرف حاكمًا عربيًا- فردًا- اهتم بـ«مصر» وبدعم منشآتها الثقافية ومؤسساتها الفكرية مثلما فعل الشيخ د.«سلطان القاسمى» حاكم الشارقة وعضو المجلس الأعلى لاتحاد «الإمارات العربية»، فالرجل الذى تخرج من «كلية الزراعة» بـ«جامعة القاهرة» وكان من رفاقه فيها الفنانان الكبيران «عادل إمام» و«صلاح السعدنى»، هو نفسه الذى عاش فى «مصر» أجواء الستينيات من القرن الماضى وعاصر فترة المد القومى الكاسح والحلم العربى الكبير وعرف الحياة فى «القاهرة» بحلوها ومرها، ومر بأوقات سعيدة وفترات صعبة أيضًا ولكنه احتفظ فى النهاية بحب كبير لـ«الكنانة» باعتبارها وطنه الثانى وظل على تواصل مع رفاقه فى الدراسة وما بعدها وأصدقائه من مختلف الطوائف والفئات، متابعًا لأحوال «مصر» والمصريين، يرى فيها ركيزة العمل العربى وقاطرة التقدم فيه، وأصبحت له مساهمات ضخمة فى إنشاء «دار الوثائق المصرية» و«الجمعية التاريخية المصرية» و«المتحف الإسلامى» و«دار الكتب» و«المجمع اللغوى». ولكن أرفع إسهاماته وأكثرها خلودًا هو تعويضه لكتب التراث الفريدة التى احترقت فى «المجمع العلمى المصرى» عندما أقدم بعض الخونة والفاسدين على إحراق ذلك الصرح التاريخى العظيم الذى ارتبط بتاريخ الحملة الفرنسية عندما أمر بإنشائه «بونابرت» فى نهاية القرن الثامن عشر، والكتب الفريدة التى أهداها الأمير المثقف لمكتبة «المجمع العلمى المصرى» تعويضًا عن خسائره الفادحة التى لا تقدر بثمن- هى لمسة تاريخية ما كان يمكن أن يُقْدم عليها غير الشيخ د.«سلطان القاسمى»، ولقد اتصلت بالأستاذ د.«محمد الشرنوبى» أمين عام «المجمع العلمى المصرى» الذى يترأسه شيخ الجراحين المصريين وأستاذ الجيل د.«إبراهيم بدران» والذى أشرُف بعضويته، فسألت د.«الشرنوبى» قائلًا: إننى ذاهب إلى «الشارقة» لحضور فعاليات معرضها السنوى للكتاب فهل من رسالة أبلغها إلى الشيخ الحاكم؟ وهل لكم مطالب لديه؟ فقال لى: إن الرسالة فقط هى المزيد من الشكر والثناء والعرفان بالجميل، وعندما التقيت حاكم «الشارقة» فى بداية حفل افتتاح معرض الكتاب وأثناء تكريم الأمير «خالد الفيصل آل سعود» باعتباره شخصية العام الثقافية قال لى - الحاكم المعروف بتواضعه وبساطته - إنه سوف يحضر محاضرتى فى المساء حول كتابى «سنوات الفرص الضائعة» والتى سوف يتولى تقديمى فيها الأستاذ د.«محمد صابر عرب» وزير الثقافة المصرى الأسبق، وبالفعل جاء أمير «الشارقة» إلى المحاضرة وأمضى ساعتين مستمعًا ومتحدثًا ودعانا إلى العشاء على مائدته معبرًا عن فخره الدائم بدراسته فى «مصر» وحرصه عليها داعيًا لها بالاستقرار والتقدم والنهوض والريادة، وكان من بين المدعوين بالإضافة إلى وزير الثقافة الأسبق د.«صابر عرب» الوزير الذى تلاه د.«عبدالواحد النبوى» والإعلامى «أحمد مسلمانى» والشاعر الأستاذ «فاروق شوشة» والفنان «محمد صبحى» والإعلامى والفنان «معتز الدمرداش» مع جمهرة من الوزراء والمسؤولين فى الدول العربية وكبار الكتاب والناشرين والصحفيين، ولقد لفت نظرى فى المعرض ورواده أن نسبة كبيرة منهم من المصريين بما يعنى أن تواجدهم فى «الإمارة» ظاهر، وأن ترحيب سلطاتها بهم واضح، ولقد رأيت القلق فى عيون الكثيرين وهم يتابعون أخبار «مصر» خصوصًا أحداث «السيول» وسقوط «الطائرة الروسية» وردود الفعل التى تبعتها على نحو قد يضر بالسياحة فى بلد يسعى للاستقرار ويبنى كل يوم طوبة فى أساس مستقبل أفضل لبلد عرف التاريخ منذ بدايته وعاصر همومه وأحداثه وظل وفيًا لأشقائه عبر السنين، وقد انعكس الوضع العربى العام على معرض الكتاب وناشريه ومطبوعاته إذ ليست «مصر» وحدها التى تمر بظروف دقيقة فهناك دول عربية تمر بظروف صعبة وما زالت «المأساة السورية» تلقى بظلالها على المناخ العام فى المنطقة تتبعها «الأزمة اليمنية» فضلًا عن مشكلات «العراق» و«ليبيا» وغيرهما من أقطار أمتنا العربية، ولن أختتم مقالى الموجز إلا بتوجيه تحية لأولئك الذين أعادوا صياغة وجه الحياة فى «دولة الإمارات العربية»، حتى أصبحت مدنها وكأنها مدن أوروبية عصرية فى إطار روح عربية مشتركة، والكل يحب فى أعماقه «مصر» وينظر إليها ويتطلع لدورها القيادى والريادى الذى ينتظره الجميع.