مصطفي الفقي
يندهش المرء كثيرًا عندما يقارن بين عبقرية المصرى القديم وتراجع قدراته وانخفاض كفاءاته إلى الحد الذى جعل حملات التشكيك تستهدفنا حتى فى الثوابت، فهناك من يقولون هل هؤلاء المصريون هم الأحفاد الحقيقيون لـ«الفراعنة» العظام؟ ويتساءلون فى خبث لا يخلو من حقد وكراهية مشوبة بالمرارة قائلين: «لابد أن المصريين الأوائل كانوا من تركيبة مختلفة وسبيكة أخرى»، فإذا كان «حافظ إبراهيم» قد قال فى قصيدته الشهيرة (وبناة الأهرام كفونى الكلام عند التحدى) فإن الأمر اختلف الآن فلقد طلعت علينا آراء ملفقة وأفكار مغرضة تقول إن الذين بنوا «الأهرامات» هم كائنات فضائية جاءت من كوكب آخر ولم يعد لهم وجود على أرض «مصر»، وتحدث آخرون عن أن سلالات بشرية خاصة كانت موجودة فى «وادى النيل» وهاجرت إلى الشمال عبر البحر وتركز معظمها فى تكوين العنصر «الجرمانى» أو الجنس «الآرى»، وخلاصة ما يهدفون إليه هو أن يجردوا الشعب المصرى من مقوماته الأساسية، حتى الثابت تاريخيًا منها والمؤكد علميًا فيها، بل لقد هبط المستوى فى الإساءة إلى هذا الشعب العظيم فزعم «اليهود» أنهم بناة «الأهرام» وادعت «إسرائيل» أن «الفلافل» طبق يهودى قديم! فنحن فى عصر سرقة التراث وتزوير التاريخ وطرح تحليلات لا تستند إلى منطق ولا تنطلق من حقيقة بل هى تعبير عن أوهام غير دقيقة، وأنا من جانبى أتساءل أحيانًا هل لدينا نحن المصريين المعاصرين «جينات» موروثة من عصور بناة الحضارات وتشييد «الأهرامات» أم أن هناك انفصالاً كاملاً بين ذلك الماضى الرائع لتلك الحضارة الملهمة وبين ما نحن فيه الآن! إننى ألاحظ أحيانًا أن «الجينات» القوية لشعبنا العريق مازالت تعشش فى العقل المصرى خصوصًا عند الأزمات وفى مواجهة التحديات، فإذا كان هو الذى بنى «الأهرامات» فهو أيضًا الذى حفر «قناة السويس» مرتين وهو الذى بنى «السد العالى» وهو أيضًا المصرى الذى يحمل معه قدراته الكامنة أينما ذهب، إنه المصرى الذى اكتشف «التوحيد» فى فجر التاريخ، لذلك فإنه كلما تواجد خارج بلاده تجلت مواهبه فـ«مجدى يعقوب» مصرى و«أحمد زويل» مصرى وغيرهما حيث تطفو القدرات المتميزة فى كل مكان وزمان،
وأنا أكتب هذه السطور اليوم ونحن نلاحظ الهجمة الشرسة على «مصر» والمصريين فى محاولة لتجريد هذا الوطن من أغلى ممتلكاته وهى شخصيته التاريخية وهويته الإنسانية، بل لقد فكرت أثناء مرحلة من حياتى فى ضرورة العودة إلى الأصول وتسمية «حاكم مصر» بلقب «عزيز مصر» تمييزًا لما تملكه «الكنانة» من خصائص متميزة ومكانة فريدة وقدرة على التواصل بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وبهذه المناسبة فإننى أدعو إلى التأكيد الدائم والحرص الشديد على عناصر الشخصية المصرية ومقومات بقائها ومظاهر وجودها لأن «مصر» غنية ببصمات التاريخ عليها وتراكم الأحقاب والدهور فى مسيرتها الطويلة منذ طفولة الإنسانية حتى اليوم، بل إننى أزيد فى التفاؤل مضيفًا إلى ما ذكرناه أننا نفتقد الزى المصرى الذى يميزنا وعندما كنت أحضر حفلات إفطار «رمضان» بدعوة من أشقائنا السفراء العرب كان يلفت نظرى السفير المغربى بـ«القفطان» وغطاء الرأس الفريد، والتونسى بـ«الجلباب المزركش» والطربوش القصير، والسفير السعودى بالزى الخليجى المعروف دوليًا فأبحث عن الزى المصرى فلا أجده، ولقد واجهت فى حياتى الدبلوماسية تلك الظاهرة عندما كان يطلب منا فى الحفلات الرسمية أن نرتدى الزى التقليدى لبلادنا فكنا نلجأــ للأسف ــ إلى الزى الدبلوماسى الغربى هروبًا من مأزق غياب الرداء الوطنى الذى نفتقده، ولقد آن الأوان لكى تكون لنا «رقصة شعبية» مميزة فيها من روح التراث ووقار تاريخنا العريق ما يجعلنا قادرين على تقديم الشخصية المصرية على النحو الذى ينبغى أن يكون، إننى باختصار أريد أن تتميز العراقة المصرية بالحداثة العصرية التى تسمح لنا بأن نكون بحق كيانًا فاعلًا وشخصية مؤثرة يسهل تمييزها والتعرف عليها لأن الرداء الوطنى و«الرقصة الشعبية» هى أمور لا تقل أهمية عن علم البلد ونشيدها الوطنى، وسوف نظل دائمًا مهمومين بهذا الاحتياج الذى تتزايد قيمته وتبدو أهميته يومًا بعد يوم، لقد عشت فى «الهند» سنوات من عمرى واكتشفت كيف فرضت الشخصية الهندية وجودها فى عالمنا المعاصر من خلال التمسك بالعناصر الأساسية لمقومات تلك الشخصية والحرص على تميزها ورفض الذوبان فى كيان آخر حتى ولو كان أكثر تقدمًا، إننى أطلب ذلك حتى يرقد أجدادنا «الفراعنة» فى سلام وهم يدركون أن الأحفاد يعرفون قيمتهم الحقيقية ويرفضون الاندماج فى شخصية الغير ووقتها سوف تختفى أحزان الفراعنة!.