من شنودة الثالث إلى تواضروس الثانى

من شنودة الثالث إلى تواضروس الثانى

من شنودة الثالث إلى تواضروس الثانى

 تونس اليوم -

من شنودة الثالث إلى تواضروس الثانى

بقلم: مصطفي الفقي

ربطتنى علاقة قوية وصلة متينة بالبابا الراحل «شنودة الثالث»، فقد كان شخصية اجتماعية صقلتها الحياة، وعركتها الأيام، فقد كان صحفيًا وشاعرًا وضابطًا احتياطيًا فى القوات المسلحة، وانضم إلى حزب الكتلة بزعامة «مكرم عبيد» فى فترة من حياته ونقل عن زعيم ذلك الحزب العبارة التى كان يكررها دائمًا «مصر ليست بلدًا نعيش فيه، ولكنها وطن يعيش فينا»، وقد جلس على كرسى البابوية لما يزيد على أربعين عامًا حافلة بالأحداث الجسام والمواجهات الحادة، منذ اصطدم مع الرئيس الراحل «أنور السادات»، حيث لعبت الكيمياء العكسية دورًا فى توسيع الهوة بين الشخصيتين حتى سحب «السادات» اعتراف الدولة بـ«خاتم شنودة» الذى آثر النفى الاختيارى إلى الدير خارج «القاهرة» لعدة سنوات، ولقد اكتسب البابا الراحل شعبية كبيرة على المستويات المحلية والعربية والدولية حتى كانت بعض الدول تطلق عليه «بابا العرب»، باعتباره الأب الروحى لأكبر تجمع مسيحى فى الشرق الأوسط، وفى ظنى أن الرجل قد رحل فى التوقيت المناسب ولو أنه عاش ليرى ما يراه البابا «تواضروس الثانى» الذى خلفه على الكرسى البابوى لكانت معاناته شديدة وآلامه قاسية فقد كان البابا «شنودة الثالث»، برغم عمق تجاربه شخصية حدية ذات ردود فعل عنيفة أحيانًا حتى تعود كثيرًا على الاعتكاف احتجاجًا والابتعاد للتعبير عن الرفض،

بل وإيقاف الاحتفال ببعض المناسبات الدينية تعبيرًا عن الغضب أو الحزن، ومثل هذه الشخصيات فى ظل أحداث السنوات الأخيرة كان يمكن أن تؤدى إلى صدامات مستمرة وأزمات حادة، ولكن يبدو أن الله يختار لكل عصر رموزه ولكل أوان من يناسبه، فالبابا «تواضروس الثانى» شخصية استثنائية بجميع المعايير بصبره الطويل وحزنه النبيل ووطنيته المفرطة، وهو لا يتخلى عن مسؤولياته، ولا يتقاعس فى واجباته، ولكنه يدرك المخاطر التى تحيط بالوطن عمومًا وبالأقباط تحديدًا، فيتصرف بحكمة بالغة وهدوء شديد حتى تصل رسالته عميقة ومؤثرة، فصمته حديث وصبره رسالة وكلماته مؤثرة، ويكفى أن نتذكر أنه هو القائل: «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن»، ولقد عرفته منذ سنوات، واكتشفت أن الفارق بينه وبين البابا «شنودة الثالث» أن البابا الراحل كان خريجًا من «قسم التاريخ» فى «كلية الآداب» بينما البابا الحالى خريج «كلية الصيدلة» التى ينتمى إليها كثير من رموز الكنيسة القبطية، وفى مقدمتهم الأب «متى المسكين» الذى كان يملك «أجزاخانة مصر» فى ميدان «الساعة» فى «دمنهور» حتى نهاية أربعينيات القرن الماضى، وكان الأب «متى المسكين» موضع أحاديث متصلة بينى وبين البابا «شنودة الثالث»، وتطرقت معه كثيرًا إلى قصة الخلاف بينهما، ولكننى أشهد أن البابا الراحل كان يتحدث عن الأب «متى المسكين» حديثًا طيبًا ويضع الخلاف فى موضعه الطبيعى، ولا يتجاوز بالمشاعر إلا بالرضا الزائد والقبول العاقل، ولقد كان «شنودة الثالث» هو (عبقرى المودة) كما أطلق عليه ذات يوم صديقه الراحل د. على السمان، وعندما كنت أتحدث- وأنا المهتم بالحياة السياسية قبل غيرها- عن الخلاف بين البابا الراحل والرئيس «السادات» الذى كان رجل دولة من طراز متميز، كان الحبر القبطى الأعظم يتحدث عنه حديث الذكريات، دون كراهية أو غضب، وتلك سمات رجال الدين الذين يعرفون أن الحياة نسيان وغفران.

إن المقارنة بين البابا «شنودة الثالث» والبابا «تواضروس الثانى» هى مقارنة ظالمة، فالأول أمضى على كرسى البابوية أربعة عقود، بينما لا يزيد الثانى فى مقعده لأكثر من أربع سنوات، وهو يمثل جيلًا جديدًا يوازن بين رعاية الطائفة وشؤون الوطن، دون تفريط أو تقاعس أو تهاون، وأتذكر الآن عندما كنت أسأل البابا «شنودة الثالث» دائمًا سؤالى المعتاد: ما هو رأيك فى أوضاع الأقباط فى وطنهم «مصر»؟ فكان يقول لى على الفور: لا يوجد اضطهاد بالمعنى الحقيقى ولا تمييز محدد، ولكن بالتأكيد توجد درجة من التهميش يجب أن يواجهها ولى الأمر، وأن تتصدى لها الدولة، وكنت أرى من منظور آخر أن المحنة قد جاءت نتيجة التغييرات التى طرأت على العقل المصرى، ووفدت على الشخصية المسلمة مع رياح هبت علينا من مناطق أخرى من عالمنا، وكنت- ولاأزال- أرى أن التطرف والتشدد والغلو والتعصب هى المصادر الطبيعية للإرهاب الذى يضرب الكنائس والمساجد، ويروع الآمنين، ويقتل الأبرياء، ومازلت أتذكر أن البابا «شنودة الثالث» المعروف بقدرته على سك العبارة الساخرة قد قال لى ذات يوم «إنه عندما بدأ تنظيم (التكفير والهجرة) بدأ الأقباط- نحن- فى تنظيم التفكير فى الهجرة!».

رحم الله البابا «شنودة الثالث» قدسًا وطنيًا دافع عن القضية الفلسطينية حتى رحيله، وأعطى الله البابا «تواضروس الثانى» مزيدًا من الصحة، محافظًا على حكمته، مؤمنًا بأمته، مخلصًا لكنيسته.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من شنودة الثالث إلى تواضروس الثانى من شنودة الثالث إلى تواضروس الثانى



GMT 03:55 2018 الخميس ,23 آب / أغسطس

الأصول المصرية.. الهوية نموذجاً

GMT 04:11 2018 الثلاثاء ,17 تموز / يوليو

زراعة الصحراء فى الوطن العربى

GMT 03:40 2018 الجمعة ,13 تموز / يوليو

رحيل أزهرى جليل

GMT 06:52 2018 السبت ,24 آذار/ مارس

وعادت جامعة بيروت العربية!

GMT 05:37 2018 الأربعاء ,07 آذار/ مارس

ظاهرة الحَوَل السياسى

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 06:39 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

دور. هبرّودس ان يهرب

GMT 14:24 2021 الأحد ,20 حزيران / يونيو

إبتكار روبوت يمكنه الحفر والحركة تحت الأرض

GMT 06:20 2017 الإثنين ,29 أيار / مايو

ترامب بين قمم الرياض وألغام المتضررين

GMT 22:45 2016 الأحد ,01 أيار / مايو

10 نصائح لمنع الكذب عند الطفل

GMT 11:53 2021 الجمعة ,05 شباط / فبراير

خبراء يكشفون عن أحدث صيحات العطور في العام 2021

GMT 14:31 2021 الخميس ,11 شباط / فبراير

الجزائري رياض محرز يتعرض لعملية احتيال

GMT 17:42 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 00:33 2018 الثلاثاء ,03 تموز / يوليو

حاذر الوقوع ضحيّة بعض المغرضين
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia