بركات دعاء الوالدين
أخر الأخبار

بركات دعاء الوالدين

بركات دعاء الوالدين

 تونس اليوم -

بركات دعاء الوالدين

بقلم : مصطفى الفقي

هى عبارة عفوية نرددها فى مناسبات كثيرة وقد لا تأخذ دلالتها الحقيقية إذ إنها تنطوى على معان عميقة بعضها أخلاقى وبعضها تربوى، وقد عشت سنوات دراستى أستلهم من دعاء أمى المدد الحقيقى للنجاح والتفوق وكنت أعتقد أن دعواتها الصالحات هى مصدر القدرة على أن أكون الأول دائمًا، كما كان أبى رجلًا صالحًا لا يلهث وراء الدنيا ولا يخطئ فى أحد وكنت أعتقد أن نظراته الصامتة وعزوفه عن التدخل فى شؤون الدراسة وتطور الحياة لأولاده هو مزيج من الزهد والثقة التى ساندت الذرية بل وذرية الذرية أيضًا، وأنا هنا لا أكتب كلامًا (طوبائيًا) ولا أستغرق فى حالة من الهيام الروحى بالوالدين بعد رحيلهما وقد أمضت أمى رحمها الله عشرين عامًا فى قبرها كما تجاوز أبى السبعة عشر عامًا منذ رحيله هو الآخر ولقد شعرت عند فقدهما كما يشعر الكثيرون بأن فصلًا كبيرًا من فصول الحياة قد أغلق بل إننى أفكر أحيانًا فى تقسيم مراحل عمرى ما بين فترة وجودهما وفترة الرحيل، وأتذكر دائمًا أننى جئت من العاصمة النمساوية عندما كنت سفيرًا فى فيينا للاحتفاء بميلاد أول حفيد من ابنتى الكبرى وبعد يوم أو يومين دخلت أمى رحمها الله فى غيبوبة عميقة ومرت ثلاثة أسابيع ولم أكن أدرك أنها فى الطريق إلى النهاية لولا أن عالم الطب الفذ الراحل «ياسين عبد الغفار» زارها فى المستشفى عندما دعوته لذلك بمنطق المعرفة والصلة الطيبة فجاء الرجل بتواضعه وبساطته وإيمانه العميق وقضى معنا فى المستشفى نصف يوم يتابع الحالة ويراجع التشخيص وأساتذة الطب من تلاميذه يتحلقون حوله فى احترام واضح وقد عبرت نظراته الهادئة عن قرب الرحيل دون أن يذكر كلمة واحدة عن هذا المعنى وكان الرجل فى سن متقدمة نسبيًا حينذاك ولكنه لم يتأخر ولم يتردد واكتشفت أنه يسعى إلى أبسط الناس عند اللزوم وقد قال لى رحمه الله عبارة لا أنساها: (لقد خدمت بلدك أثناء عملك فى رئاسة الجمهورية والسلك الدبلوماسى وسيعوضك الله خيرًا عن الرحيل الهادئ لأمك شفاها الله وهو على كل شىء قدير)، ويومها أدركت أن الحياة لا تعطى كل شىء وهى تأخذ أحيانًا مثلما أعطت لأن ديمومة الوجود تقوم على التناوب وهى فلسفة إلهية عجزت الكائنات عن فهمها أو الخروج عليها

ومازلت أتذكر وأنا طالب فى المرحلة الثانوية أن قلت لأمى إننى أشعر بإرهاق فى استذكار الدروس بعد العودة من المدرسة مباشرة وإننى أفكر فى النوم بعد تناول الغداء كل يوم لأصحو فى منتصف الليل وأذاكر حتى الصباح فكانت تصحو رحمها الله بعد منتصف الليل لتوقظنى ولتتأكد من صحوتى لمواصلة دروسى وكان ذلك واحدًا من أسرار تفوقى فى تلك الفترة وعندما كنت أعمل فى مؤسسة الرئاسة وقع صدام حاد بينى وبين أحد رموزها الكبار وكان صدامًا علنيًا وتراشقًا لفظيًا أدركت لحظتها أن مهمتى فى تلك المؤسسة السيادية قد انتهت لأننى اصطدمت بما لا أستطيع أن أنتصر عليه لأسباب كثيرة لا أخوض فيها وقد استدعانى الرئيس يومها مباشرة وكنت واثقًا أنه سوف يبلغنى بقرار الإقالة وهمست فى سرى مناديًا اسم أمى (يا عزيزة) طلبًا للدعاء الصالح حتى أترك المكان بسلام وكانت المفاجأة التى لا أعرف لها تفسيرًا حتى الآن هى أن الرئيس الأسبق «مبارك» استقبلنى بهدوء وطلب منى أن أجلس أمامه وناقش معى ما جرى فى تلطف ثم عرج مباشرة إلى أمور تتصل بالعمل وتكليفات مطلوبة ومضى الأمر وكأن شيئًا لم يكن وقد كنت أتوهم يومها أن الرئيس مشحون ضدى بسبب صدامى مع مركز قوة لا قبل لى به وأيقنت يومها- وما

زلت- أنها دعوات أمى عندما ناديتها صامتًا فاستجابت بلا تردد واستجاب لها ربها بسبب دعواتها الصالحات، وقد يتساءل القارئ لماذا يركز الكاتب على الأم أكثر من الأب مع أنهما فى منزلة واحدة (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا) خصوصًا أننى اكتشفت أن فقدان الأم يبدو أحيانًا أكثر لوعة وألمًا من فقدان الأب رغم الحزن العميق والجرح الدفين لرحيلهما بنفس القدر وقديمًا قالوا إن اليتيم الحقيقى هو الطفل الذى يفقد أمه رغم وجود أبيه فسر الحياة متصل بين الأم ووليدها، وقد احتفلت صامتًا منذ أيام بالذكرى العشرين لرحيل أمى دون أن يلحظ ذلك أحد حولى إذ إن أعظم المشاعر هى تلك التى لا ينطق بها البشر! وقد عرفت فى حياتى أشخاصًا أساءوا إلى أبويهم ولم يحسنوا معاملتهما ولم يكونوا بارين بهما وهؤلاء توعدهم الله بسوء الخاتمة وقد رأيت شيئًا من ذلك فى كثير من الحالات مصداقًا للوعد الإلهى الذى لا يخيب أبدًا، وأيقنت أن بر الوالدين هو منطق أخلاقى قبل أن يكون التزامًا دينيًا وآمنت أن الذين أحسنوا إلى أبويهم يتلقون معاملة مماثلة من أبنائهم وبناتهم والحياة «سلف ودين» كما يقولون، وبهذه المناسبة فإننى أدعو شبابنا إلى استعادة التقاليد الراقية فى مستوى الأسرة لأن ذلك يعنى فى نهاية الأمر نهوض المجتمع ورقى العلاقات المتبادلة بين أطرافه ويحفظ توازنًا بدأنا نفقده، أين نحن من وقت كان الابن المتزوج لا يستطيع التدخين أمام أبيه ولا يجلس إلا إذا جلس بل إننى أقرر حقيقة قد يدهش لها البعض وهى أننى كنت أقبل يد أمى طوال حياتى ولم يكن أبى مرحبًا أن أفعل نفس الشيء معه.. رحم الله من مضوا قبلنا وليستمتع أبناء الوالدين الأحياء منهم بوجودهم، فالفلك يدور والحياة تمضى، وتبقى دائمًا «بركات دعاء الوالدين»!

المصدر : صحيفة المصري اليوم

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بركات دعاء الوالدين بركات دعاء الوالدين



GMT 08:20 2021 الإثنين ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

كتاب الشارقة: طبيب الأطباء

GMT 05:36 2019 الجمعة ,10 أيار / مايو

في حضرة العلماء

GMT 07:31 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

تغول السلطة التنفيذية

GMT 04:01 2018 الجمعة ,21 أيلول / سبتمبر

حزب الوفد

GMT 01:52 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

تكريم السادات

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 19:54 2016 الثلاثاء ,10 أيار / مايو

أحذية رياضية أساسية في خزانة كل رجل

GMT 22:30 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

تعرف على الطريقة الصحيحة للتخلص من انسداد الأنف

GMT 08:34 2019 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

"بيركنستوك" تطرح منتجات جديدة صديقة للبيئة

GMT 00:57 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

الـ«روبوت» ينافس الصين في هذا القرن

GMT 03:52 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

فى مكتبة الإسكندرية!

GMT 05:13 2019 الخميس ,20 حزيران / يونيو

تمييز ضد المرأة الرياضية

GMT 12:18 2020 الثلاثاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

تأجيل حفل أصالة في المنارة إلى 4 ديسمبر

GMT 13:46 2021 السبت ,24 إبريل / نيسان

بوتين ضد خصومه في الداخل والخارج

GMT 00:46 2019 الخميس ,24 كانون الثاني / يناير

اشهر جبال رومانيا تناسب المسافرين محبي تسلق الجبال

GMT 09:48 2021 الخميس ,09 كانون الأول / ديسمبر

أوروبا الباحثة عن مؤلف!

GMT 09:57 2021 الجمعة ,05 شباط / فبراير

وفاة الفنان عزت العلايلي عن عمر يناهز 86 عاما

GMT 03:12 2021 السبت ,20 شباط / فبراير

سياحة افتراضية على متن مركب شراعي في أسوان

GMT 14:33 2021 الجمعة ,04 حزيران / يونيو

موضة ديكور الأعراس في الحدائق الخارجية
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia