بقلم : مصطفى الفقي
ودّع اللواء أ. ح «إبراهيم محمود» الحياة منذ أيام قليلة، وهو يمخر عباب عامه السابع والتسعين، وللرجل على الوطن دَيْن كبير، فهو واحد من أبَرّ أبنائه، ونموذج مشرف للعسكرية المصرية، عرفته عن قرب لأكثر من خمسين عامًا من عمره المديد، فهو والد واحد من أقرب أصدقاء العمر وزملاء الدراسة فى «كلية الاقتصاد والعلوم السياسية»، وأعنى به السفير «محمد عاصم إبراهيم»، الذى خدم «مصر» سفيرًا فى «كينيا» و«إثيوبيا» و«السودان» و«إسرائيل»، فضلًا عن سنوات قضاها فى مطلع حياته الوظيفية باحثًا متميزًا فى إدارة المعلومات فى المخابرات العامة المصرية فور تخرجه فى الكلية عام 1966، ولم يكن اللواء «إبراهيم محمود» أبًا له وحده، بل كان والدًا أيضًا لكل أصدقائه وزملائه، ولقد ارتبطت بذلك الضابط الأب عبر رحلة العمر منذ كنت طالبًا بالجامعة، وكنا نركب سيارتهم من «مصر الجديدة» إلى الجامعة فى «الجيزة»، إذ لا يحب «عاصم» أن يستأثر بميزة وحده، فقد علمه والده عمق الصداقة وحسن المعشر منذ بدايات العمر، ومازلت أتذكر اسم السائق (رشدى)، وأرجو أن يكون على قيد الحياة، وقد كان من أصدقاء «عاصم» على الجانب الآخر طالب يسبقنا بسنوات قليلة يدرس فى «كلية التجارة»، هو ابن لواء طيار، وأعنى به «أحمد على أبوالغيط»، الأمين العام الحالى لـ«جامعة الدول العربية».
نعود إلى السيرة العطرة للمحارب القديم، الذى نتذكره بعد أيام من رحيله، فهو خريج «الكلية الحربية»، فى أواخر الثلاثينيات فى دفعة تزامل فيها مع المشير الراحل «عبدالحكيم عامر»، ولهذا اللواء مواقف مشرفة فى تاريخه العسكرى، فهو أول مَن لفت أنظار الحكومة المصرية ووزير الحربية «إسماعيل بك شرين» إلى ضرورة السيطرة على «صنافير» و«تيران»، لموقعهما الاستراتيجى فى مواجهة «إسرائيل»، فضلًا عن ضرورة حمايتهما فى ظل ظروف الحرب القائمة حينذاك، وهو أيضًا الضابط المثقف الذى أوفدته «مصر» لـ«دول حوض النيل» فى مهمة استطلاعية باتجاه منابع «النهر»، ومازلت أتذكر يوم عودته من زيارة لـ«أوغندا» وهو يحكى لـ«عاصم» وأصدقائه انطباعاته وآراءه، فى أفق واسع ورؤية بعيدة، ومازلت أتذكر كيف ترك الخدمة نتيجة اعتزازه بكرامته وتمسكه الشديد بالتقاليد العسكرية الحقة، إذ رفض أن يتلقى تلقينًا من العقيد «شمس بدران» الأحدث منه- حتى ولو كان وزيرًا للحربية- وقال له يومها المشير «عامر»، فى عتاب رقيق: إنك جرحت «شمس» وهو وزير، فقال له: «إذا رقَّيته ترقية استثنائية وأصبح لواءً أقدم منى فسوف أمتثل وأقوم بتعظيمه، أما العبث بالسلم الهرمى فى منظومة العسكرية المصرية فأمر لا أوافق عليه، بل أحذر منه»، وترك الخدمة قبل نكسة 1967 بشهور قليلة، وعندما وقعت الواقعة استدعاه الفريق «فوزى»، ضمن مجموعة من ضباط القوات المسلحة الذين أطاحت بهم مراكز القوى داخل الجيش، وجاء اللواء «إبراهيم محمود» مديرًا لـ«هيئة التنظيم والإدارة»، فى وقت يلملم فيه الجيش المصرى شتاته ويداوى جراحه بالصمود العظيم والدخول فى أعماق «حرب الاستنزاف»، التى تمثل أعلى مراحل الجسارة فى الشجاعة العسكرية المصرية، فضلًا عن ذروة التلاحم فى التضحيات بين الشعب وجيشه، ولن أنسى ما حييت بعد ثلاثة أسابيع من 5 يونيو 1967 وأسرتى حزينة على فقدان أخى الذى يكبرنى بسنوات قليلة، النقيب بالقوات المسلحة حينذاك، «زكريا الفقى»، حتى كاد أبى وأمى يُصابان بالجنون حزنًا على الغائب وإحساسًا بمرارة الهزيمة وغموض الموقف برمته، وذات مساء أبلغنى اللواء «إبراهيم محمود» بأن أخى قد عبر «قناة السويس» عائدًا مع فلول من رفاقه، وأنهم يخضعون لاستجواب فى المخابرات الحربية، بعد أيام طويلة قضوها فى معسكر للأسرى أقامته «إسرائيل»، ولكن بعضهم قد تمكن من الفكاك والعودة فوق رمال الصحراء الساخنة وتحت لهيب شمس يونيو الحارقة، وقد عاد أخى فى اليوم التالى وقد أصبح إنسانًا آخر: صحة ضعيفة، وحزن عميق، وإحساس بالانكسار، الذى لا يد له هو ورفاقه فى أسبابه، وقد تواصلت علاقتى بالوالد الكبير «إبراهيم محمود»، وعندما أُصيبت ابنته الصغرى، التى هى بمثابة أختى العزيزة، بحرق مؤقت فى القرنية نتيجة النظر إلى كسوف الشمس، جاءت مع والدها إلينا فى «لندن»، حيث احتفلنا بهما- زوجتى وأنا- وسعدنا بمَن نعتبرهما امتدادًا لأسرتنا، وكان زميلى «عاصم» يضرب فى أنحاء الأرض حينذاك من خلال عمله الدبلوماسى سواء فى «كندا» أو «أستراليا»، قبل أن يلحق بوفد «مصر» الدائم لدى «الأمم المتحدة» فى «نيويورك»، وقد كان «عاصم» يرعى والدى ووالدتى فى غيابى بالخارج مثلما أفعل مع والديه فى غيابه أيضًا، إنها صداقة عمر وقصة حياة.
ولقد كان اللواء «إبراهيم محمود» يكره التطرف ويرفض إقحام الدين فى السياسة، ولقد جاءنى فى مكتبى ذات يوم برئاسة الجمهورية ومعه اللواء «عبدالمنعم الشاذلى»، مدير «نادى هليوبوليس»، الذى كان لقبه الذى يستخدمه الجميع هو «الباشا»، يشكو من أن إمام مسجد النادى يُقحم أمورًا لا علاقة لها بالدين فى خطبة «الجمعة»، بل يصفى حساباته مع خصومه من فوق المنبر، وهو أمر يتنافى مع روح «الإسلام» وتعاليمه، فلقد كان اللواء «إبراهيم محمود» رجلًا صادقًا ومثقفًا يقرأ كل ما أكتب، وحتى أسابيع قليلة مضت كان يتصل بى معلقًا على مقال كتبته أو رأى قلته، فى سعة أفق وحصافة وعلم لا أتصورها لمَن بلغ ذلك العمر، ولقد فقد شريكة حياته، أمنا الراحلة، والدة «عاصم»، منذ سنوات قليلة، وفقد قبلها ابنته الكبرى، ولكنه كان فى كل الأحوال ابن «المنصورة»، الوفى الصابر المحتسب، الذى لا يفقد الأمل فى الحياة ولا يشكو لغير الله.
وعندما ظهرت مشكلة «صنافير» و«تيران» هذا العام (2016) أدلى بدلوه فيها بأحاديث صحفية ولقاءات تليفزيونية، وهو لا يقول إلا ما يؤمن به ويعتقد فيه.. رحم الله اللواء «إبراهيم محمود»، الابن البارّ للعسكرية المصرية، الذى توج حياته بما يستحقه من اعتزاز وفخار، وعزاء للوطن فى واحد من أبَرّ أبنائه!