ذكريات يوم خالد

ذكريات يوم خالد

ذكريات يوم خالد

 تونس اليوم -

ذكريات يوم خالد

بقلم : مصطفى الفقي

بدأت عملى فى القنصلية المصرية بـ«لندن» عام 1971 وكانت «مصر» تمر بأصعب ظروفها، الزعيم رحل، والأرض محتلة، والهزيمة تلقى بظلالها على وجوه المصريين جميعًا، رغم الصمود القوى الذى تمثل فى «حرب الاستنزاف» التى امتدت لأكثر من ثلاث سنوات منذ معركة «رأس العش» يونيو عام 1967 حتى وقف إطلاق النار بقبول «مصر» «مبادرة روجرز»، وزير الخارجية الأمريكى.

وتُعتبر حرب الاستنزاف شهادة تاريخية للشعب والجيش المصريين فى مقاومة الاحتلال والوقوف ببسالة خلال أصعب الظروف وأحلك الأوقات، وقد جرت أثناءها عمليات فدائية مصرية تسجل فى تاريخ جيشنا بأحرف من نور، فقد كان فيها أسبوع إسقاط الطائرات الإسرائيلية وبناء حائط الصواريخ، وفيها أيضًا معركة «شدوان»، وفيها كذلك جريمة مدرسة «بحر البقر»، فضلًا عن استشهاد رئيس الأركان فى ميدان المعركة، وهو الفريق «عبدالمنعم رياض»، لذلك كانت السنوات من 1967 حتى عام 1973 سنوات صعبة على الشعب المصرى الصامد والجسور، الذى صمم على تحرير الأرض وإزالة آثار العدوان بمنطق أن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة».

فى ظل تلك الأجواء بدأت خدمتى فى «العاصمة البريطانية» حتى عدت فى إجازة منتصف المدة فى سبتمبر 1973، وبينما كنت أتجول مع بعض الأصدقاء بين محال «وسط القاهرة» إذا بنا نسمع فى الساعة الثانية بعد الظهر نبأ الضربة الجوية الأولى وبشائر طلعات العبور، وهو أمر هزنا من الأعماق، وأصابنا بمزيد من الفرحة والقلق، حيث أدركنا أن لحظة الثأر قد حانت، وظللنا نتابع الأخبار بشغف شديد، وازدادت ثقتنا باحتمالات النصر عندما تأكدنا أن ما يذيعه «راديو القاهرة» هو ذاته ما تذيعه وسائل الإعلام العالمية، وشعرنا أننا أمام لحظة تاريخية فارقة لا تتكرر كثيرًا فى حياة الشعوب.

ولقد انتظم المصريون فى أعمالهم بانضباط غير معهود، واختفت الجريمة الجنائية تقريبًا، ولم يحدث اختفاء ملحوظ للسلع والمواد التموينية، بل مضت الحياة منتظمة ثابتة، وعاشت الأسرة المصرية وقتها فترة تجلت خلالها روح التضحية والرغبة فى الخلاص من عار الهزيمة، إذ كان لكل أسرة مصرية تقريبًا ابن فى ميدان المعركة، فلا فرق فى ذلك بين حمَلة المؤهلات العليا- وما أكثرهم فى القوات المسلحة- وبين غيرهم من أبناء «مصر»، الذين لم ينالوا حقهم فى مراحل التعليم المختلفة، كما شاركت قوات رمزية من الدول العربية من «المشرق» و«المغرب» على جبهة القتال، وحارب المصريون والسوريون فى وقت واحد، وحفظ الجيشان أسرار المعركة وموعد لحظة البداية فى صدق قومى وأمانة تجسد خصوصية العلاقة التاريخية بين الشعب المصرى الصبور والشعب السورى الأبى، ودخلت على الساحة «دول الخليج» العربى، بقيادة العاهل السعودى الملك «فيصل بن عبدالعزيز»، الذى أعلن حظر تصدير النفط للدول الداعمة لـ«إسرائيل»، فى ظل ظروف رائعة للتضامن العربى قد لا نشهدها مرة أخرى!

لقد وقف الرئيس المصرى الراحل «أنور السادات» لينفذ خطة العبور التى جرى وضعها قبل ذلك بسنوات، واستطاع أن يجمع الشعب المصرى حوله، بعد أن كانت احتمالات الحرب مثار تندر، خصوصًا من جانب الذين لم يكونوا مقتنعين بقيادة «السادات»، بعد زعامة «عبدالناصر»، فإذا بهم يدركون بعد العبور العظيم أن رئيسهم «أنور السادات» يملك رصيدًا هائلًا من الدهاء السياسى والصبر على النقد والسخرية، مع قدرة مشهودة فى التمويه على احتمالات المعركة وتاريخ وقوعها والاستعدادات الحاسمة لها، فقد أعلن الجيش المصرى قبل الحرب الظافرة فى شهر رمضان- الذى لم تتوقع فيه «إسرائيل» القتال- عن فتح الباب للضباط المصريين لأداء «العمرة»، بما يعنى حالة استرخاء واضحة أمام الجميع، كما جرى تسريب خبر عن زيارة وزير دفاع إحدى الدول الأوروبية لنظيره فى «مصر»، بما يعنى انشغال القيادة العسكرية فى أمور روتينية وزيارات معتادة، ثم كانت المفاجأة المهولة التى سوف تظل وسامًا على صدر القوات المسلحة المصرية، كما أنها سوف تبقى علامة مضيئة فى التاريخ المصرى كله لشعب رفض الهزيمة وأصر على الصبر والصمود.

إن يوم العبور العظيم سوف يظل فى ذاكرتنا يومًا خالدًا فيه روعة عودة الروح أو بدء مهرجان البعث، بعد أن تحدث الخبراء العسكريون فى العالم كله عن استحالة عبور أكبر مانع مائى وأكبر ساتر ترابى على الضفة الشرقية لقناة السويس، بل أجمعوا بعد نكسة 1967 على أن «مصر» تحتاج إلى خمسين عامًا على الأقل ليتعافى جيشها ويتمكن من القيام بعمل عسكرى لتحرير الأرض العربية، فإذا بالإرادة الوطنية لشعب «الكنانة» وجيشها تحطم ذلك الوهم، بل تبدأ المقاومة العسكرية الباسلة فى معركة «رأس العش» بعد أيام قليلة من نكسة الخامس من يونيو عام 1967، عندئذ أدرك الخبراء العسكريون أن الحسابات الرقمية والقراءات السطحية للاحتمالات العسكرية ليست بالضرورة صحيحة، لأن هناك حسابات أخرى للمخزون الحضارى فى أعماق الشعوب وجينات كامنة فى ضمائر الأمم تمارس تأثيرها عند اللزوم ولا تظهر إلا أمام المخاطر الكبرى والتحديات القاسية.

سوف يظل يوم السادس من أكتوبر عام 1973 يزهو فى أعماقنا، مُذكرًا لنا بمشاعرنا الحقيقية أنا ومَن حولى ونحن نعبر شارع «الشواربى» فى وسط «العاصمة المصرية»، ولقد حمدت الله وقتها أننى حضرت ذلك الحدث الجلل وتابعت أحداث العبور المجيد أثناء وجودى فى بلادى، وعندما عدت إلى «لندن» وجدت أن صورتنا قد تغيرت، وأن نظرة الآخرين لنا قد تبدلت، وأن احترامًا واضحًا وتقديرًا ملموسًا قد بدأ يتجه إلينا، رغم مؤامرة «ثغرة شارون»، التى لم تتمكن من تشويه الطلعة الجوية الباسلة أو العبور الانتحارى العظيم أو معركة الدبابات الكبرى، التى لم يشهد التاريخ مثيلا لها منذ «الحرب العالمية الثانية».. إنها أيام مجيدة ليت روحها تعود إلى الجسد المصرى بعد غياب!

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ذكريات يوم خالد ذكريات يوم خالد



GMT 08:20 2021 الإثنين ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

كتاب الشارقة: طبيب الأطباء

GMT 05:36 2019 الجمعة ,10 أيار / مايو

في حضرة العلماء

GMT 07:31 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

تغول السلطة التنفيذية

GMT 04:01 2018 الجمعة ,21 أيلول / سبتمبر

حزب الوفد

GMT 01:52 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

تكريم السادات

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 06:31 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

تنعم بأجواء ايجابية خلال الشهر

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 15:20 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 09:20 2016 الثلاثاء ,22 آذار/ مارس

فوائد صحية وجمالية لعشبة النيم

GMT 18:17 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

إنجي علي تؤكّد أن مصر تتميز بموقع فني عالمي رفيع

GMT 13:10 2013 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الــ " IUCN"تدرج "الصلنج" على القائمة الحمراء

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia