بقلم : مصطفى الفقي
هناك شبه اتفاق بين أساتذة علم الاجتماع على أن كلمة «تكنولوجيا» تعنى فى مجملها توظيف العلم لخدمة الصناعة، فهى تزاوج تقنى بينهما وتطبيق عملى لآخر ما وصل إليه البحث العلمى مصنعاً وبأسماء تجارية فى الأسواق من أجل رفاهية الإنسان والسعى لراحته وتعزيز اختياراته، كما أن الأرستقراطية- على سبيل المثال- هى تزاوج بين الثروة والثقافة حتى تصل إلى قمتها عندما تصبح الثروة فى خدمة الفكر الإنسانى وليس مجرد الثقافة المحلية، إننى أكتب هذه السطور وعينى على التطور الكاسح فى المجالات التكنولوجية لعالم اليوم بما يقف وراءها من استنارة عصرية ونظرة شاملة لفهم ما يدور حولنا، ولقد أسهم تطور التكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات والإبهار الشديد فى تطور وسائل الاتصال إلى درجة أعلى من سطوع التنوير ووضوح تأثيره، إذ ليست هناك خصومة بين التكوين الثقافى والعمق الفكرى فى جانب وبين التطور المادى فى تكنولوجيا الصناعة ومسارات البحث العلمى فى جانب آخر، وعندما تحدث فلاسفة أوروبا منذ بداية العصر الوسيط عن الجدلية بين البناء الحضارى والثقافى من ناحية وبين المكون المادى للحياة المتقدمة تكنولوجياً وعلمياً، والتى أفرخت الثورة الصناعية بكل ما صنعته من ركائز أدت إلى ظهور الدولة الحديثة، برغم الصدام بين الطبقة العاملة ومالكى وسائل الإنتاج على نحو أفرز «النظرية الماركسية» ووضعنا وجهاً لوجه فى خيار صعب أمام الفلسفة «الماركسية» وتطبيقاتها «الشيوعية»، كما أدى الأمر أيضاً إلى احتدام العلاقة بين الدين والحياة واختلاف التفاسير فى هذا الشأن حتى ظهر الصدام جلياً بميلاد «نظرية النشوء والارتقاء» واختلاف التفسير العلمى لبداية الكون ونشأة الإنسان عن التفسير الدينى «الميتافيزيقى» عندما ظهرت النظرية «الدارونية»، ثم جنح التقدم العلمى فى العلوم السلوكية بعد ذلك ليتقدم من يرى أن الرغبة الحسية المرتبطة بتواصل الحياة هى دافع كبير لتطور الكون وإشباع رغبات الإنسان فكان ميلاد «الفرويدية»، وقد كنت أتذكر فى سنوات إقامتى فى «فيينا» كلما جلست فى مقهى «لاندمان» أن ذلك كان هو المقهى المفضل للعالم النمساوى «سيجموند فرويد»، ولقد دلنى «النادل» فى المقهى على المقعد التاريخى الذى كان يجلس عليه ذلك الرائد الكبير فى العلوم السلوكية، بدءاً من علم النفس، مروراً بعلم الاجتماع، وصولاً إلى فروع الجريمة ودراسات القانون، أى أن هناك ارتباطاً قوياً بين التقدم فى المجال العلمى والتطور فى الميدان الفكرى، فالتكنولوجيا والتنوير بينهما علاقة قوية يمكن أن نطلق عليها (لازمة التطور)، ولنا هنا تعليق يتلخص فى نقاط ثلاث:
أولاً: إن الإيقاع السريع لحياة العصر والطابع المادى الذى يغلف شؤون الحياة ولوازم المعيشة قد أصبح يرى التكنولوجيا واحدة من أهم مقومات وجوده، وقد تصور البعض وهماً أن الاستنارة تعبير ثقافى يكاد يكون ترفاً تسبقه أولويات الحياة المادية، وهذا مردود عليه بسهولة ويسر، إذ إن حركة التنوير هى التى تفتح الآفاق أمام التطور التكنولوجى والبحث العلمى، فالفكر يقود مركبة العلم ويشدها فى الاتجاه الصحيح، وقد ورد فى الأثر دعاء يقول (اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع... )، لذلك فإن المحاولات التى جرت لتأكيد مادية الحياة وجدلية الكون قد ارتطمت دائماً بالحس الإنسانى والجانب العاطفى بما يحتويه من مخزون دينى وزخم روحى وانفعالات مكبوتة وخيال متقد.
ثانياً: إن هناك صداماً حتمياً بين ما هو دينى روحى وما هو دنيوى فعلى، فالحياة السوية تحتاج إلى التوازن بين الشقين معاً، ولذلك تمثلت حياة الإنسان فى جسد وروح، وأضحت كل المؤشرات مؤكدة أن التوازن ضرورى بينهما وإلا انفلت عيارهما وأصبحنا أمام خلل حقيقى نتيجة الخروج على ناموس الحياة وفلسفة الكون، وما أكثر الدراسات والاجتهادات التى سعت إلى توظيف المادة فى خدمة الروح أو بمرادف آخر توظيف التكنولوجيا لخدمة التنوير.
ثالثاً: إن هناك محاولات جادة تسعى نحو مصالحة عصرية بين قوانين البحث العلمى وقيم المخزون الروحى، وهى قضية تصدت لها جميع النظريات التى ظهرت على السطح فى القرنين الأخيرين، إذ تواكب مع الاختراعات والاكتشافات واقع اجتماعى جديد وفهم إنسانى مختلف، بل إن اختراعاً واحداً يمكن أن يطيح بعشرات المعطيات الموروثة أو المسلمات المستقرة، كما أن اتساع آفاق الاستنارة يفتح على الجانب الآخر رؤى جديدة لم تكن متاحة حتى للعلماء أنفسهم، ومن هنا تبرز العلاقة الوثيقة بين العالم والمفكر، فهما وجهان لعملة واحدة هى عملة التقدم إلى الأمام والتطور نحو الأفضل، لذلك برز فى التاريخ البشرى وفى الحضارتين العربية الإسلامية والأوروبية المسيحية نمط فريد يجمع بين العلم والفكر من نماذج المعلم «ابن سينا» و«الفارابى» و«توماس إديسون» و«الفريد نوبل» وغيرهم ممن ربطوا بين المسائل العلمية والقضايا الفكرية فاستحقوا لقب (شخصيات موسوعية) فى عصورهم وأزمنة تالية على وجودهم.
هذه رؤية تغوص فى «تاريخ ما أهمله التاريخ» من علاقة بين العلم والفكر، بين الحياة والمعرفة، بين التكنولوجيا والتنوير.