مصطفى الفقي
إن تاريخ الأفكار هو المعيار الدقيق للتطور، كما أن التأريخ للثقافة هو الدليل على درجة التقدم الحقيقى، لذلك فإن التاريخ الفكرى والثقافى هو المؤشر الدقيق عند تقويم العصور والحكم على الأزمنة، ولاشك أن هناك كتباً محورية أثرت فى الجنس البشرى أكثر من غيرها ونحن نرتفع «بالكتب المقدسة» عن سياق المناقشة، كما نعلم أن «القرآن الكريم» قد خاطب الإنسانية واستقر فى ذاكرة البشرية ليكون هادياً لأكثر من مليار ونصف المليار نسمة، حتى إن حفظ «القرآن» كاملاً هو أمر شائع عبر مراحل التاريخ المختلفة، وإذا أردنا استعراض بعض الكتب التى أثرت فى البشرية فى القرن العشرين فإننا نختار منها ما يلى:
أولاً- كتاب «النبى» لـ«جبران خليل جبران»، اللبنانى الذى ذاع صيته فى المهجر وملأ الدنيا وشغل الناس بعد ذلك، حيث يقدر البعض عدد النسخ المطبوعة منه حتى الآن بعشرين مليون نسخة، وهو بذلك يعتبر أكثر الكتب توزيعاً فى القرن العشرين باستثناء الكتب الموجهة التى تصدرها بعض الحكومات أو الجهات وتكون أقرب للنشرات التوجيهية منها إلى الكتب ذات القيمة، فضلاً عن الكتب المقدسة بالطبع، وتميزت كتابات «جبران» بمسحة فلسفية عميقة، كما أنها لا تخلو من غموض مبهر يعبر عن عقلية مضيئة لمفكر وفيلسوف وأديب من طراز خاص، فكتاباته مليئة بالأفكار والأشعار والأذكار لرجل لا يقف عند حدود ديانته المسيحية، ولكن انتماءه الإنسانى يعلو على ما عداه، وقد اشتهرت مراسلات «جبران» مع الأديبة اللبنانية «مى زياده» التى اتخذت «مصر» موطناً ثانياً، وهى صاحبة الصالون الثقافى الشهير، والتى أحبها معظم المشاهير من معاصريها فتميزت مراسلاتها المتبادلة مع صاحب كتاب «النبى» بالأهمية، رغم أنهما لم يرَ أحدهما الآخر، إلا أن تلك المراسلات هى وثائق نادرة فكرياً وإنسانياً وعاطفياً، وسوف يبقى اسم «جبران خليل جبران» ساطعاً فى سماء الفكر العربى بل والإنسانى كله.
ثانياً- يعتبر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذى كتبه الشيخ «على عبدالرازق» بمثابة كتاب محورى لتاريخ الدولة الإسلامية عموماً، فهو الكتاب الذى دحض صاحبه مفهوم «الخلافة» وأثبت أنها وقفت عند الخليفة الراشد الرابع، وأثبت أنها مقصورة على الخلفاء الراشدين الأربعة وحدهم، مؤكداً أن الدولة الإسلامية بعد ذلك كانت مُلكاً خالصاً، وقد نسف بذلك الكتاب الصغير والخطير آمال الملك «فؤاد» وحاشيته فى التطلع إلى وراثة الخلافة العثمانية التى سقطت قبل ذلك بسنوات قليلة، وكان من نتائج سقوطها محاولات متعددة لوراثتها بدءاً من «الهاشميين» الذين كان يمثلهم الشريف «حسين» وأولاده، مروراً بابن «سعود» موحد الجزيرة، وصولاً إلى العرش العلوى فى «مصر» الذى كان يمثله الملك «أحمد فؤاد الأول» بل إن ميلاد جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928 كان إحدى النتائج غير المباشرة لانهيار الخلافة العثمانية، ولقد دفع الشيخ «على عبدالرازق» ثمناً باهظاً لكتابه أدى إلى محاكمته أزهرياً وفصله من تلك المؤسسة الدينية الكبرى، كما دفع صديقه الشيخ «طه حسين» ثمناً لكتابه «فى الشعر الجاهلى»، والملاحظ هنا أن العلاقة الوثيقة بين الشيخين «على عبدالرازق» و«مصطفى باشا عبدالرازق»- الذى تولى مشيخة «الأزهر»- فى جانب والدكتور «طه حسين» فى جانب آخر، كانت علاقة وثيقة، فهم أبناء محافظة واحدة هى «المنيا»، ودرسوا فى «فرنسا»، كما أن عائلة «عبدالرازق» اشتهرت بالتجسيد الحقيقى لمفهوم «الأرستقراطية الريفية» التى توظف الثروة لخدمة الثقافة، لذلك خرجت من تلك العائلة أسماء لامعة منها «حسن عبدالرازق» الذى لعب دوراً مهماً فى الحياة السياسية والحزبية المصرية فى مطلع القرن العشرين، ولقد كانت السيدة «سوزان طه حسين» تأنس لعائلة «عبدالرازق» وإمكاناتهم المادية وثقافتهم الرفيعة ويشاركها فى ذلك زوجها «عميد الأدب العربى».
ثالثًا- مازال كتاب «كفاحى» الذى كتبه «أدولف هتلر»، أو نُسب إليه تعبيراً عن الجذور الأساسية للفكر النازى، واحداً من أشهر الكتب فى القرن العشرين، لأنه يمثل الخلفية التى تختفى وراء «الاكتساح الهتلرى» لدول عدة من القارة الأوروبية بدعوة عنصرية تقوم على تفوق «الجنس الآرى»، وبذلك فإن ذلك الكتاب الذى يرتبط باسم أخطر مجرم حرب فى القرن العشرين سوف يظل واحداً من الكتب المهمة فى ذلك القرن- بغض النظر عن تقييمه- ولقد تأثر الكثيرون بالفكر النازى حتى إن بعض التنظيمات التى وُلدت فى تلك الحقبة تأثرت بذلك الإحكام الشديد والصرامة التنظيمية واتباع أسلوب الطاعة العمياء، وقد تكون جماعة «الإخوان المسلمين» التى ارتبطت بداياتها مع المد النازى قد تأثرت بشىء من ذلك، كما أن زعيم «مصر الفتاة» الراحل «أحمد حسين» أصدر كتابه الشهير «إيمانى» على وزن كتاب «هتلر» «كفاحى» وليس ذلك غريباً على المصريين الذين كان يطلق بعضهم اسم «هتلر» على أبنائه، بل وتجاوز بعض آخر إلى تسميته الحاج «محمد هتلر».
رابعاً- كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» لعميد الأدب العربى، ذلك الأزهرى الذى سبق عصره، وكان تعبيراً صادقاً عن الروح التقدمية فى الفكر الإنسانى المعاصر، وأثرى بدوره التاريخى «الأزهر الشريف» والتعليم المدنى وجوانب الحياة المختلفة بما يجعلنا مدينين له حضارياً وإنسانياً، خصوصاً عندما نفكر فى الهوية المصرية والانتماء الثقافى «لمصر»، فنجد أن كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» هو كتاب محورى بكل المقاييس، وفيه رؤية قابلة للتعايش على مر العصور، وسوف يذكر التاريخ لذلك الذى فقد نور البصر فحباه الله نور البصيرة أنه ألهم «مصر» الثقافة بعداً «متوسطياً» سوف نظل نعتز به ونحرص عليه، إن كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» هو وثيقة تاريخية تدور حول فهم الهوية المصرية.
هذه آراء قابلة للجدل، فليس هناك من يحتكر الحقيقة، ولكل كاتب رؤيته فيما قرأ، ولا نستطيع أن نجزم بأن كُتباً بعينها قد غيرت مسار «مصر» وغيرها من الدول فى القرن العشرين، فقد يرى البعض غير ما رأيناه فله فى ذلك كل الحق، إذ إن ما نسعى إليه هو التحريض على التفكير الذى هو طريقنا الوحيد إلى الأفضل!