التقط الدكتور «بطرس غالى» فى إحدى رحلاته المكوكية إلى «أفريقيا»، عندما كان وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية، «فيروسًا» فريدًا من نوعه شديدًا فى خطورته، وجرت محاولات لعلاجه فى «القاهرة» بما فى ذلك اللجوء إلى المراكز الطبية الأجنبية مثل وحدة «النمرو»، ولكن لأن «الفيروس» لم يكن مألوفًا فإن علاجه كان صعبًا للغاية، وذات صباح اشتد عليه المرض وتدهورت حالته بشكل ملحوظ فتلقيت اتصالًا هاتفيًا من السيدة قرينته «ليا نادلر»، وكان ذلك فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى وكنت وقتها سكرتير الرئيس الأسبق للمعلومات، لقد قالت لى وهى متوترة للغاية: أرجو إبلاغ الرئيس أن د.
«بطرس» فى حالة سيئة للغاية وأنه يكاد يموت، ورغم أن الوقت كان مبكرًا فى السابعة صباحًا إلا أننى اتصلت بالرئيس الأسبق الذى أبدى اهتمامًا شديدًا وأجرى اتصالًا تليفونيًا مباشرًا مع قرينة الدكتور «بطرس غالى» ولم تمض ساعتان أو ثلاث على الأكثر إلا وكان الدكتور «بطرس غالى» يطير إلى «باريس» ومعه السيدة قرينته وطبيبه فى طائرة مجهزة، حيث جرى إدخاله إلى أحد المعاهد الطبية المتخصصة فى أمراض «المناطق الحارة» و«الأوبئة المتوطنة»، وكان دخوله تحت اسم «مستعار» لتأمين وجوده، وظل
العظيم يصارع المرض الغامض إلى أن استطاع بفضل صلابته والاهتمام الطبى البالغ فى العاصمة الفرنسية أن يقهر المرض وأن يستعيد صحته بعد مدة. وعندما أفتح خزينة الذكريات فإننى أجد فى جعبتى الكثير عن أستاذنا الذى مضى إلى حيث لا يعود الناس، فهو الذى امتدح بحثى عن مفهوم التنظيم الدولى لدى «الكواكبى» فى كتابه «أم القرى» وكنت طالبًا فى السنة الثالثة بالجامعة، ومنذ ذلك اليوم قربنى إليه حتى الأسابيع الأخيرة قبيل رحيله، وعندما عملت فى مكتبه وهو وزير للدولة للشؤون الخارجية بعد أن كنت عائدًا من «لندن» وقد حصلت على «الدكتوراة» فإذا به ينقلنى إلى العمل فى العاصمة الهندية «نيودلهى» ولأننا معشر الدبلوماسيين كنا نقيس أهمية الدول بـ«معيار سياحى»، بينما كان يقيسها «بطرس غالى» بـ«معيار وظيفى» يعتمد على الدور السياسى لكل دولة وليس على إمكانات الراحة فيها والخدمات المتاحة بها، لذلك انزعجت وعبرت له عن ذلك فى عتاب تلميذ لأستاذه فقال لى: إنك أكملت دراسة نظرية فى «لندن» حول موضوع الأقليات فلا بأس أن تذهب لترى على الواقع كيف تتعايش الأقليات العرقية واللغوية والدينية على أرض «الهند» الكبرى، وبالفعل كان قوله صحيحًا، وكانت نصيحة أب لابنه لا وزير
لعضو فى مكتبه، فقد استفدت من تجربة عملى فى «الهند» ما لم يتحقق لى فى «لندن» قبلها ولا «فيينا» بعدها، فـ«الهند» مدرسة دبلوماسية ثرية للغاية وكانت وقتها بحق هى عاصمة العالم الثالث، وكلما زارنى فى «نيودلهى» التى كان يحرص على الحضور إليها كل عام لحوار سياسى ودبلوماسى مع رموزها رأيت أن أقدم له هدية رمزية هى «ميزان» صغير من النحاس الهندى المشغول، ولقد ظل الرجل محتفظًا بتلك الهدية البسيطة حتى رحيله وكان يمازحنى دائمًا ويقول لى: أتريد أن تذكرنى بالعدالة الغائبة بسبب نقلك إلى «نيودلهى»! إننى أرى أن هذا «الميزان» هو اعتراف منك بأننى كنت عادلًا معك وحريصًا على مستقبلك، وذات يوم جاء إلى «الهند» حاملًا رسالة من الرئيس «السادات» إلى السيدة «أنديرا غاندى»، رئيسة وزراء «الهند» حينذاك، التى استقبلت الدكتور «بطرس غالى» وتسلمت منه الرسالة مغلقة ولم تفتحها فى حضوره وفقًا للأعراف الدبلوماسية، بل وضعتها جانبها دون اهتمام، لأن كيمياء العلاقة بينها وبين «السادات» لم تكن طيبة على الإطلاق خصوصًا بعد سياسات «كامب ديفيد»، وقد حرصت رئيسة وزراء «الهند» طوال الجلسة على سؤال الدكتور «بطرس غالى» عن «هدى» و«خالد» جمال عبدالناصر، ولم تتطرق إلى
موضوعات سياسية، وعندما انتهى اللقاء أبدى الدكتور «بطرس» دهشته من هذا السلوك الغريب ورأى فيه مؤشرًا إلى ابتعاد «الهند» نسبيًا عن «مصر» فى تلك المرحلة، والغريب أنها ذاتها السيدة «أنديرا غاندى» التى طلبت بعد ذلك زيارة «القاهرة» للحصول على درجة الدكتوراة الفخرية من «جامعة الأزهر» تحديدًا، لأنها كانت تتهيأ لدخول الانتخابات العامة وتريد الحصول على تكريم إسلامى أمام ما يزيد على مائة مليون مسلم هندى وقتها ولم يتحقق طلبها بالطبع، لأنه كان مستحيلاً من الناحية العملية لأسباب معروفة، ولن أنسى أبدًا كيف كان الرئيس الأسبق «مبارك» يفكر فى تكريم الدكتور «بطرس»، وهو وزير دولة للشؤون الخارجية، وكان يقول إنه يفكر فى تعيينه وزيرًا للخارجية ولكنه يخشى المقارنة بينه وبين «طارق عزيز»، وزير خارجية «صدام حسين»، وكأننا نقلد «بغداد» فى اختيار وزير خارجية «مسيحى» حينذاك، ولكن الرئيس الأسبق قرر، بعد ذلك، تعيين «بطرس بطرس غالى» نائبًا لرئيس الوزراء لشؤون الاتصالات الخارجية على أن يكون مقره فى وزارة الخارجية، حيث كان يشغل المنصب وقتها وزير خارجية جديد هو السيد «عمرو موسى» وكان يستحيل على الوزير الكفء أن يقبل شراكة غيره فى القرار السياسى ال
خارجى باعتباره هو رئيس جهاز الدبلوماسية المصرية وقتها، وقد اتصل بى الدكتور «بطرس غالى» عصر أحد الأيام وبدا متأثرًا للغاية وقال إن صلاحياته محدودة بل وتبدو من الناحية التنفيذية أقل منها عندما كان وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية، وطلب منى أن أحضر إلى مكتبه للتحدث معه فى شؤون لا يفضل الحديث عنها تليفونيًا، وقد استأذنت الرئيس الأسبق فى الذهاب واستقبلنى د.
«بطرس» فى مكتبه وقال لى: إنه يود إبلاغ الرئيس بأنه لا يشعر بالحرية التى يحتاجها فى عمله، وأن لديه مطالب ثلاثة أولها تقسيم إدارات وزارة الخارجية بينه وبين السيد «عمرو موسى» أسوة بما كان متبعًا بينه وبين السيد «كمال حسن على» والدكتور «عصمت عبدالمجيد».
وأضاف إننى أطلب فقط تبعية مباشرة لى بالنسبة للإدارات «الأفريقية» و«الآسيوية» و«أمريكا اللاتينية» والثقافية و«معهد الدراسات الدبلوماسية» على أن يستأثر وزير الخارجية بإدارات شرق «أوروبا» وغربها والعلاقات مع «الولايات المتحدة الأمريكية» وقضية «الشرق الأوسط» برمتها وتطوراتها لدى «الأمم المتحدة» والمطلب الثانى هو أن يرافق الرئيس «مبارك» فى زيارته الرسمية المنتظرة إلى «لندن» فى شهر يوليو عام 91 على أن يكون تاليًا للرئيس مباشرة فى عضوية الوفد الرسمى باعتباره نائب رئيس وزراء.
وأضاف المطلب الثالث قائلًا: عندما كنت فى «أبوجا» عاصمة «نيجيريا» الأسبوع الماضى لحضور مؤتمر طلب منى الرئيس «موبوتو» إضافة اسمى إلى قائمة المرشحين الأفارقة لمنصب الأمين العام لـ«الأمم المتحدة»، حيث إن الدور هذه المرة على القارة الأفريقية، وقد قلت له إننى لم استأذن الرئيس «مبارك» فى ذلك، فقال لى ضع اسمك حتى لا تضيع الفرصة وإذا وافق الرئيس «مبارك» كان بها وإن رفض فإن حذف الاسم لن يكون أمرًا صعبًا، وقد عدت إلى مكتبى بعد هذا اللقاء فإذا بالرئيس «مبارك» يبادر بالاتصال بى متسائلًا: ماذا كان يريد «بطرس غالى» فعرضت عليه الاقتراحات الثلاتة، فقال لى أبلغه أننى لن أقسم وزارة الخارجية فقد عانيت من ذلك خصوصًا عندما كانت الشراكة بين «عصمت عبدالمجيد» و«بطرس غالى» والوزارة وحدة واحدة ولا يجب تقسيمها، أما بالنسبة لمرافقة الدكتور «بطرس غالى» للرئيس الأسبق فى زيارته الرسمية لـ«المملكة المتحدة» فقد قال لى الرئيس: إن لديه وزير خارجية جديدا هو «عمرو موسى» ويريد أن يقدمه بوضعه إلى المجتمع الدولى فى كل المناسبات، أما بالنسبة لـ«الأمم المتحدة» فقد استغرب الرئيس فى البداية الأمر وقال لى إن معلوماتى من قبل أن الدكتور «بطرس» لم يوفق فى ا
نتخابات إحدى الوكالات المتخصصة فكيف تحصل «مصر» على منصب الأمين العام! فناقشته فى ذلك بكلمات قليلة قلت فيها إن الفرصة متاحة ولا ينبغى إضاعتها فوافق الرئيس متشككًا فى إمكانية حصوله على المنصب- وكان معه الحق وقتها- وقلت له إن سيادتك و«مصر» سوف تضعان الثقل الكامل والدعم الكلى للمرشح المصرى، وبالفعل اتصلت بالسيد «عمرو موسى»، وزير الخارجية، وأبلغته بطلب الرئيس ترشيح د.
«بطرس غالى» رسميًا للمنصب فأبدى السيد «عمرو موسى» ارتياحًا لأسباب لا تخفى على القارئ وبالفعل بذل جهودًا مضنية هو وجهازه الدبلوماسى وسفاراتنا فى الخارج وبدعم غير مسبوق من الحكومة الفرنسية لمرشح لا يحمل جنسيتها ولكنها اعتبرته تجسيدًا دوليًا لمفهوم «الفرانكفونية» فى مجال الدبلوماسية الدولية، وبعد ذلك بشهور قليلة دق جرس التليفون فى منزلى فى الثانية صباحًا ليطلب منى المندوب الدائم لـ«مصر» فى «الأمم المتحدة» د. «نبيل العربى» إبلاغ الرئيس «مبارك» بانتخاب «بطرس بطرس غالى» أمينًا عامًا لـ«الأمم المتحدة» وظللت مستيقظًا أرقب أول ضوء حتى أبلغ الرئيس بذلك الخبر الرائع لـ«مصر» وشعبها، وبالفعل أبلغته فى السادسة صباحًا لأننى كنت أعرف أنه يستيقظ مبكرًا.
هذه نقاط تماس بينى وبين الراحل العظيم أستاذى الذى لم ينجب فأصبحنا جميعًا أبناءه، ومازلت أتذكر عندما ذهبت ابنتى الكبرى فور تخرجها فى الجامعة فى زيارة دراسية لمقر «الأمم المتحدة»، وكان هو الأمين العام، أنه أصر على استقبالها شخصيًا فى مكتبه وأخذ صورًا لها معه تحت علم «الأمم المتحدة»، وعندما زرت أنا وأسرتى «نيويورك» أقام لنا هو والسيدة قرينته عشاءً كبيرًا دعا إليه شخصيات مرموقة وكنت قد تركت مؤسسة الرئاسة، ولكن «بطرس غالى» بأخلاقه المعروفة لا يتغير، إذ إن عراقة الأصل ترتد لأصحابها دائمًا، وقد دعانى فى مطلع عام 2010 لكى أكون المتحدث الوحيد فى الذكرى المئوية لاغتيال جده الراحل «بطرس» الأكبر وألقيت كلمة فى احتفال تلك المناسبة بـ«الكنيسة البطرسية» حاولت فيها الإشارة إلى بعض إيجابياته وظروف مصرعه وقلت إن هناك أمورًا أخرى يصعب الدفاع عنها، فلكل فترة تاريخية ظروفها وبعد أن انتهيت من كلمتى وسط حشد من الضيوف المصريين والأجانب قام الدكتور «بطرس غالى» مصافحًا وشاكرًا، وقد اتصلت بى السيدة «ليا» قرينة الراحل العظيم- وهى شخصية جديرة بكل احترام لأنها تعشق «مصر» وشعبها- وقالت لى إن د.
«بطرس» يريدك للعشاء معه بمنزلنا هذا الأسبوع، واتفقنا على تحديد الموعد ولكن صحته تدهورت بعد أن أصيب بكسر نتيجة سقوطه فى حمام المنزل وحانت لحظة الرحيل، فكان آخر لقاء مباشر لى معه منذ أسابيع قليلة فى حفل منح وسام فرنسى رفيع للوزير السابق «منير فخرى عبدالنور»- وأمه هى ابنة «أمين باشا غالى» عم الدكتور «بطرس»- ولقد صافحنى أستاذى الذى رحل بحرارة وقال لى: إن وزنك زائد ولابد أن تلاحظ ذلك ولكن يبدو أننى لم أحقق له ذلك الطلب حتى الآن، وبالمناسبة فإن الراحل العظيم يشترك معى فى عيد الميلاد فكلانا من مواليد الرابع عشر من نوفمبر.. رحمه الله جزاء ما قدم لـ«مصر» و«العرب» و«أفريقيا» والبشرية كلها من خدمات باقية على مر الزمان.