مصطفى الفقي
حكمة قالها الأقدمون ومازالت تمارس تأثيرها بقوة فى حياة البشر أفرادًا وجماعات بل ودولًا وشعوباً إذ إن هذه الحكمة تبدو لى أحيانًا واحدة من أصدق ما قاله القدماء وأنا أظن أن «مصر»- الدولة والشعب- قد تلقت «جزاء سنمار» فى مراحل مختلفة من تاريخها ودفعت فاتورة غالية من مقومات وجودها نتيجة اهتمامها بغيرها وحرصها على الآخرين حولها، ولابد أن أعترف أنها مثلما أعطت فإنها قد أخذت أيضًا فتلك فلسفة الحياة وناموس الوجود لطريق ذى اتجاهين ذهابًا وإيابًا، والذى يدفعنى إلى التطرق إلى هذا الموضوع هو إحساسى بأن هناك نمطًا من البشر يريد كل شىء ولا يقدم فى المقابل أى شىء!
وتلك فى ظنى هى نقطة الارتكاز فى المعاملات بين البشر، فقد يحدث أن تكرم إنسانًا ويغدر بك وينقلب عليك ويتصيد لك الأخطاء، وقد تكرم إنسانًا آخر فإذا هو مقدر لما تفعل، حافظ للجميل، وفى بالعهد بينما هناك نمط آخر يتنكر لك وقد يعاديك نتيجة ظن خاطئ أو معلومة خارج سياقها أو لحظة ضعف إنسانى يمكن الاعتذار عنها، ولذلك فإننى أكمل الحكمة قائلًا «اتق شر من أحسنت إليه بزيادة الإحسان له»، ولعلى أبسط ما أريد أن أصل إليه من خلال النقاط التالية:
أولًا: إن هناك أيضاً «الدولة المنظورة»- نسبة إلى نظرة الحسد- وهى تلك التى تواجه المكائد وتستهدفها الأطماع، وفى ظنى أن «مصر» هى نموذج بامتياز لذلك النمط من الدول التى يحبها الجميع ويغار منها معظمهم فى ذات الوقت حيث تبدو العلاقة مزيجًا مركبًا من الحب والكراهية فى آن واحد، إن هناك من يستكثرون علينا «النهر» و«الهرم» و«طه حسين» و«العقاد» و«عبدالناصر» و«السادات» و«عبدالوهاب» و«أم كلثوم»، «فمصر» دولة متعددة الجوانب وبلد تداخلت فيه ثقافات وازدهرت على أرضه حضارت فأصبح نسيجا وحده بين الأمم وشعوب الأرض ولعل تلك الفرادة تمثل هاجسًا فى حد ذاتها.
ثانيًا: إن العطاء يؤدى إلى إحساس بالدونية لدى من يتم الإحسان إليه وذلك قد يدفعه فى واحد من اتجاهين، إما أن يتصرف عكسياً ويشعر أن من أحسن إليه لا يستحق التقدير وإما أن الأمر ينبغى أن يكون عرفاناً بالجميل وتقديراً لصاحب الفضل، وقديماً قالوا (إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا) المسألة فى النهاية ترتبط بالتكوين النفسى والخلق الشخصى للطرف الذى يتجه إليه العطاء، وهناك نوع من البشر يؤمن بالعطاء دائماً لمن يستحق وأحياناً لمن لا يستحق وعندما تكون النتيجة سلبية فإنه يحتسب عند الله ما فعل ويقول كما تقول العامة فى «مصر» (افعل الخير وارمه فى البحر).
ثالثاً: إن لدغة الصديق أشد حرقةً من لسعة العدو، وقديماً قالت العرب أيضاً (احذر عدوك مرةً واحذر صديقك ألف مرة، فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة) ولا شك أن الطعنة عندما تأتى من قريب منك أو عزيز عليك فهى طعنة فى الظهر لأنك تركت نفسك مكشوفاً له، ولذلك فإننى لم أعد أستغرب عندما أرى بعض الأشخاص المتحفظين والذين يخشون الآخر ولو بشكل مبالغ فيه، فالدنيا تغيرت والناس تحولت ولم تعد هناك تلك المشاعر النبيلة التى كنا نعرفها من قبل، وأنا هنا لا أنساق وراء «ابن المقفع» فى مقاله الشهير «فضل الأقدمين» عندما تباكى على الفضيلة وذرف الدمع على المروءة بمنطق «الحنين التاريخى» أو «أنستولجيا الماضى» ولكننى أستطيع التأكيد على أن السنوات الأربع الماضية قد غيرت المصريين كثيراً فلم يسقط حاجز الخوف وحده ولا سياج الهيبة وحدها وإنما سقط معهما أيضاً الإطار الأخلاقى المعترف به بين البشر وهذا أمر يدعو إلى الأسف بل يتجاوزه إلى الحزن!.
رابعاً: إن العلاقات بين الدول كما هى بين الأفراد أصبحت تتميز بروح التآمر الزائد والبحث عن المصالح القريبة وإسقاط تأثير الروابط التاريخية، إننا أمام غابة حقيقية يلتهم فيها القوى الضعيف وينال الكبير من الصغير بل ويطل الإرهابى بوجهه الكئيب لكى يجتاح المدن، ويقتل على الهوية، ويضرب الطوائف المختلفة، ويصنع الفتنة فى أنحاء الأرض، ومصر دائماً مستهدفة ويرى فيها كل طامع أنها «الجائزة الكبرى» وعلى حدودها المختلفة تربض الذئاب وتزحف الثعابين تريد أن تقتل أقدم كيان فى التاريخ وتسعى لتعكير ماء «النهر» وهز قيمة «الهرم» وليس أمامنا فى هذه الظروف إلا التماسك الكامل والتوقف عن روح الهزل فى جوانب حياتنا المختلفة والاتجاه فى صلابة نحو المستقبل.
خامساً: إن المناخ العام والبيئة الاجتماعية قد تغيرا بتأثير التقدم «التكنولوجى» وتعقيداته فضلاً عن القفزة الهائلة فى دنيا المعلومات وسرعة انتشار الخبر حتى تراجعت الجوانب الإنسانية إلى حد كبير أمام الكم الكاسح من فيضان المعرفة على نحو أدى إلى العزلة التى يكتفى فيها الإنسان بجهاز صغير لديه هو الصديق الجديد فى عالم بارد يغلفه صقيع العصر فلقد أصبحنا أمام متغيرات لا يمكن تجاهلها بل وأضحى من المتعين علينا تقنين قواعد جديدة لشبكة علاقات مختلفة فى ظل إطار لم يكن موجوداً من قبل كما أن منظومة القيم وتراكم التقاليد ونمط العادات تبدو الآن كلها أمام اختبار صعب قد يؤدى إلى نقلة نوعية فى اتجاه مختلف، فالكل ينادى بشعارات الفضيلة ويتعلق بشكليات المظهر الدينى ولكن الجوهر والمخبر مختلف تماماً فلقد أصبحت الثقة مفقودة والشفافية غائبة والمصالح وحدها هى الفيصل فى تحديد مسار العلاقات بين جميع الأطراف دولاً وجماعاتٍ وأفراداً.
إن الحكمة الخالدة التى تقول (اتق شر من أحسنت إليه) تبدو لى حالياً هى شعار هذا الزمان ومع ذلك يبقى لدينا الأمل فى أن نرى عالماً مختلفاً تبدو إرهاصاته من بعيد ونحن نمضى نحو مجتمع يستعيد قيم الماضى ولو بعضها، ويرتبط بالروح الإنسانية وإن لم تكن كلها، عالمٌ تغيره أجيال جديدة، وتدعمه الثورة العلمية، وتحميه قفزة «تكنولوجية» لا تتعارض مع الجانب الإنسانى فى حياة البشر ولا تهدم الإطار الأخلاقى لدى المجتمعات.