مصطفى الفقي
يتمكن بعض الحكام الأذكياء من دخول سباق التطور وحلبة الإصلاح مع شعوبهم، وينجحون فى أن يسبقوا تطلعات تلك الشعوب وآمانيهم، ويجهضوا فعل الثورة ويطبقوا نتائجها دون حدوثها، وأظن أن العاهل المغربى «محمد السادس» ينتمى إلى ذلك الفصيل العصرى من الحكام الذى استطاع أن يقود ثورةً للربيع العربى دون أن تحدث، فأعفى بلاده من الآثار الجانبية للثورة بينما حقق نتائجها بانتخاباتٍ حرة ونزيهة سمحت بوصول المعارضة إلى الحكم مع قبول كامل من الملك بالواقع ونتائجه، ولقد عدت من زيارة أخيرة إلى ذلك البلد العربى الإفريقى الشقيق وشهدت تجربة التعايش المشترك بين القوى السياسية المختلفة، والقبول المتبادل لخيارات كل طرف دون تعصب أو تشنج أو مغالاة، وقد لاحظت التقدم الواضح فى مرافق الحياة والخدمات العامة خصوصًا أننى لم أكن قد زرت ذلك البلد منذ عدة سنوات، رغم أن هذه هى زيارتى السابعة له، كما أسعدنى كثيرًا أن أشعر بازدهار الحياة الفكرية والثقافية فى ظل مناخ الحرية الذى يكفل لغة راقية للحوار وازدهارًا واضحًا للآداب والفنون، ولا يصادر على حياة الناس كما لا يضع قيدًا فى أيديهم، ويهمنى هنا أن أشير إلى بعض الملاحظات:
أولاً: ليست العبرة بالمفاضلة بين النظامين الملكى والجمهورى، فالملكية الدستورية لا تقل مكانة عن الجمهورية البرلمانية، إنما تأتى العبرة بالمناخ السياسى والبيئة الثقافية والاجتماعية الحاضنة لرموز ذلك النظام أو ذاك، فالمهم فى النهاية هو أن تكون هناك «ديمقراطية» حقيقية لامجرد «ديكور» سياسى؛ لذلك لم يعد شكل الدولة هو الفيصل ولكن العبرة تكون بمضمون الحياة السياسية وجوهر التطبيق الديمقراطى؛ لذلك وجدنا ملكيات مستقرة وأيضًا جمهوريات ناهضة، وكذلك ملكيات مستبدة وجمهوريات فاسدة، إذ إن حكم الفرد وحده فى كل الأحوال هو الذى يصنع الطاغية؛ ملكًا أو رئيسًا.
ثانيًا: إن الشعوب مثل الجيوش تزحف على بطونها، يهمها الخبز والملبس والمسكن، مع حدٍ أدنى من احترام كرامة المواطن وكبريائه الذاتى؛ لذلك خرج المصريون إلى «ميدان التحرير» بدافعٍ أساسى هو المطالبة «بالعدالة الاجتماعية» فهى قضية القضايا وهى مفتاح الاستقرار السياسى والسلام الاجتماعى للشعوب، فلم يرفع الثوار فى «ميدان التحرير» شعارات تتصل بالسياسة الخارجية أو القضايا الدولية ولكن التركيز كله كان على المعاناة الداخلية وشيوع الفساد المالى والإدارى، فضلاً عن قبضة الاستبداد أحيانًا، لذلك فإننا نكاد نؤمن بأن جزءًا كبيرًا من ثورات الشعوب تقف وراءه الأوضاع الداخلية والتناقضات الاجتماعية والفوارق الطبقية، بالإضافة إلى صراع الأجيال وصدام الخيارات الفكرية على الصعيد السياسى.
ثالثًا: إننى أشعر كثيرًا أن «مصر» بحاجة إلى تحولات ثقافية قبل حاجتها لموارد مادية، إذ إن سلوك الناس ومنظومة القيم والتقاليد السائدة، فضلاً عن الأعراف الموروثة، تشكل فى مجملها طبيعة الجو العام الذى يتنفس فيه أبناء الوطن الواحد خصوصًا المثقفين والمتعلمين الذين يدركون بوضوح المفارقات القائمة والأوضاع المعيبة، وهنا يجب أن نضع فى الاعتبار أن انهيار شبكة التعليم المصرى فى العقود الأخيرة هو واحد من الأسباب الكبرى التى أدت إلى تردى الأوضاع وسوء السياسات وعجز الإدارة، وكلها معطيات تصب فى شحن مشاعر الجماهير وتؤجج روح الثورة لديها.
رابعًا: إن «الإيمان المصرى» الذى اكتشف التوحيد مبكرًا أمر يعتز به المصريون على اختلاف دياناتهم، ولكن الفهم المغلوط لرسالات السماء والتدين الذى لا يستند إلى روح التسامح ورحابة الشعور الدينى الصحيح هو الذى يؤدى إلى حالة من الاحتقان لم تتوقف عبر السنين، فالعلاقة بين الدين والسياسة هى واحدةٌ من القضايا الشائكة فى مسيرة الأمة الإسلامية التى ننتمى إليها، لذلك فقد حان الوقت لحسمها من منظورٍ دينى صحيح ومفهوم سياسى رشيد.
خامسًا: إن عصر الرئيس الأسبق «مبارك»ـ بما له وما عليه ـ كان فيه فرص متعددة للإصلاح الحقيقى ولكنه تجاوزها فكانت النهاية على ما شهدنا، إذ إن براعة الحاكم تكمن فى قدرته على اختيار الفرص لاتخاذ القرارات المناسبة فى التوقيت الملائم، وقد كان أمام الرئيس الأسبق لحظاتٌ مواتية للانصراف باحترام، حتى إننى سمعت ذات يوم أحد كبار الإعلاميين وهو الأستاذ «عماد الدين أديب» يتحدث قبل ثورة 25 يناير عن «الخروج الآمن للرئيس» من مقعد السلطة، ولكن الآذان كانت صماء والعيون مغلقة والرؤية محدودة.
هذه بعض خواطرى بعد زيارةٍ للمغرب الشقيق؛ وجدت فيها ملكًا ذكيًا قفز على الواقع واستبق ما نطلق عليه «ثورة الربيع العربى»؛ فجنَّب بلاده ويلات الانقسام ومعاناة الفوضى، وعبر بالسفينة إلى بر الأمان.