مصطفى الفقي
لا ترقى مرحلة من التضحية في التاريخ الإنسانى كله لدرجة الاستشهاد من أجل الوطن، لأنها تعنى «البطولة» و«الشجاعة» و«التضحية» والموت في سبيل المبدأ والدفاع عن الأرض والبشر والحجر، كل ذلك في وقت واحد، والذين قالوا قديمًا «المجد للشهداء» كانوا صادقين فيما يقولون، حيث أدركوا أن «أكاليل الغار» و«أقواس النصر» يجب أن توضع فوق قبور الشهداء قبل أن يستمتع بها الأحياء، ولى هنا ملاحظات أسوقها حول شهدائنا في مراحل تاريخنا المختلفة وما يتعلق بهم من شؤون وشجون، إننا نقول الآتى:
أولاً: إن الاستشهاد في سبيل الوطن هو استشهاد في سبيل الله أيضًا لأنه يعنى حالة من السمو التي لا ترقى إليها حالة أخرى، كما أن من يفقد حياته دفاعًا عن شرف بلاده وكرامة شعبه هو مقاتل جسور سعى نحو الشهادة فكتبها الله له، ولقد رفعت الديانات السماوية والأرضية مرتبة الشهداء إلى العلياء وجعلتهم في موقعٍ إنسانى مهيب يتصدّر طوائف الشعب كافة دون تفرقة أو تمييز بين هؤلاء الشهداء، لأنهم سقطوا في معارك الشرف والفداء.
ثانيًا: إن قائمة شهداء الوطن تمثل لوحة الشرف لدى شعوب العالم المختلفة الذين يحتفون باسم الشهيد ويعبرون في صدق عن تقديرهم له وحرصهم على ذكراه لأنهم يدركون أن الذي ضحى بحياته من أجل وطنه وأمته قد تجاوز كل الحدود البشرية في التضحية واستقر اسمه في تاريخ بلاده يرصع أعلى مكانٍ ويطل على وطنه وأجياله المتعاقبة بابتسامةٍ راضية من بعيد، إذ إن معظم الشهداء لا قبور لهم إذ اختلطت دماؤهم بتراب الوطن وكانوا وقودًا لحروبه العادلة ومعاركه الوطنية الشريفة.
ثالثًا: إننى ألاحظ ـ وبشىءٍ من الأسف والأسى ـ أن تكريمنا لشهدائنا لا يرقى إلى المستوى المطلوب تاركين لهم حسن المثوبة من رب العالمين، بينما تبدو أهمية الجانب الدنيوى في التكريم ذات أهمية خاصة لأنها تقدم النموذج أمام الأحياء وتعطيهم إحساسًا بأن الشهداء لا يموتون ولا تحتويهم زوايا النسيان بل على العكس هم حاضرون في ضمير أمتهم يعيشون في تاريخها عبر العصور، تحتفل بهم شعوبهم ويفخر بهم أبناؤهم وذوو القربى منهم، فالشهادة في سبيل الوطن لا يعلوها غيرها أبدًا.
رابعًا: إن اسم الفريق «عبدالمنعم رياض» يرصِّع سماء الوطن منذ أن استشهد وهو رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية الذي سقط وسط جنوده في موقع متقدم على جبهة القتال، وما أكثر شهدائنا عبر تاريخنا الطويل، بل إن معظمهم يمثلون أسماءً غابت وتاهت في دهاليز التاريخ العسكرى والمدنى للبلاد حتى لم نعد نتذكر بعضهم، ولقد شهدت بعينى رأسى أسر بعض الشهداء وهم يعانون من نقص التكريم وضعف الاهتمام بل وغياب الرعاية لأن التعويض المادى ليس هو المطلوب وحده ولكن هناك ماهو أكبر وأهم وأعنى به التعويض الإنسانى الذي يرفع «اسم الشهيد» ويضع كرامته فوق الرؤوس ولا يسمح لاسمه الخالد بأن يدخل في زوايا النسيان بل يزال حاضرًا في ضمير أمته تزهو به وتفاخر في كل حين.
خامسًا: نعم.. نحن نطلق أسماء الشهداء على بعض الشوارع والميادين والمؤسسات والمدارس والمستشفيات والمنشآت العامة ولكن لا توجد عدالة في ذلك، فلكل شهيدٍ ظروفه فمنهم من نال جزءًا لا بأس به من التكريم ومنهم من لم ينل نفس الدرجة من الاهتمام لأنها ظروف دولة وأحوال شعب وضمير أمه، وأنا أعلم أن إدارات رعاية الشهداء في القوات المسلحة والشرطة بل والمعنيين بشأنهم في الجهات المدنية يحاولون جميعًا أن يجعلوا من الشهيد طاقة ضوءٍ تعزز دوره وتكرمه أمام الجميع وتضعه في سجل الخالدين، ولكن ذلك كله لا يكفى إذ لابد من المتابعة الأخلاقية الأبوية لأبناء الشهداء وأسرهم، فأنا أعرف صحفيًا مرموقًا سقط والده شهيدًا في حرب 1967 ونال اسمه بعد ذلك «نجمة سيناء» ولكن الابن الذي يقترب من سن التقاعد حاليًا لم ينل في مقابلها لا تكريمًا ماديًا ولا معنويًا!
.. سيطرت على خاطرى قضية الشهداء في الأيام الأخيرة وأنا أرى من يتساقطون دفاعًا عن «مصر»ـ الهوية والحياة والمستقبل ـ وكيف أنهم يدفعون الضريبة عنَّا في صمت وينسحبون في هدوء! لذلك فإننى أقول طوبى لهؤلاء العظماء والمجد دومًا للشهداء.