مصطفى الفقي
قد لا تكفى الوطنية الصادقة فى الانتقال بالدول إلى مواقع أفضل، وقد لا تكفى النوايا المخلصة وحدها لتحريك المجتمعات إلى الأمام، ولقد فرضت قوانين العصر شبكة معقدة من السياسات المتقدمة والمواقف الطارئة، التى تنبع من «أجندات» متضاربة لقوى إقليمية ودولية، إننا فى عصر يتسم بالصراع غير المسبوق، حيث سادت فيه القوة على العدل، وسيطرت الأساليب الملتوية على أصحاب الحقوق المهضومة، لذلك فإن السياستين الداخلية والخارجية لدولة ما هما- بالمناسبة- امتداد واحد يعكس دائمًا هيبة الدولة محليًا، ودورها إقليميًا، ومكانتها دوليًا، ونحن فى «مصر» لم نتمكن تاريخيًا من توظيف القدرات المصرية وتحويلها إلى مهارات تفاوضية، فنحن دائمًا نقنع بالنتائج السريعة التى تأتينا، ولا نجيد اللعب بعنصر الزمن الذى أصبح- فى حد ذاته- بعدًا فاعلًا فى تسوية المواقف وحل الأزمات، إننا متعجلون وطيبون أحيانًا إلى حد السذاجة، ونتخذ مواقفنا غالبًا وعيوننا على إرضاء الداخل وترطيبه إعلاميًا وإرضائه ظاهريًا، بينما لا نمضى إلى الأعماق حيث تجب معالجة الأمور جذريًا ويتعين حسمها من البدايات، ولكننا لا نفعل ذلك، فنحن نتحدث كثيرًا ونعمل قليلًا، إننا نغنى فى عشق «مصر» ونردد فى
حبها الأشعار والأذكار، ولكننا لا نقدم لها ما تستحق، إذ إن «عقدة الفشل» سيطرت على مراحل معينة فى تاريخنا الحديث، كما أن «مُركب النقص» قد بدأ يمارس تأثيره على حياتنا فى السنوات الأخيرة، فنحن لا نحترم العقل ولكن نؤمن بالعنف، نحن لم نتعلم «آليات الحوار»، ولكننا أدمنّا رفض الآخر وتسفيه خياراته، إن السياسة فى النهاية ليست رداءً نرتديه حين نريد، ثم نتخلى عنه حين نشاء، إنها علم مثل غيره من العلوم العصرية، فيه أبحاث متطورة حول المواقف وأوراق للسياسات ودراسات مستقبلية، ولا يمكن أخذه أبدًا بعناصره السطحية أو أدواته «الفهلوية»، إن الأمر يقتضى دراسة متعمقة للتاريخ وعناصر التشابه والاختلاف بين أحداثه، مع استخلاص النتائج من التجارب المختلفة، واضعين فى الاعتبار أن التاريخ لا يكرر نفسه تمامًا، ولكنه يمضى أيضًا وفقًا لقوانين الحركة فى العلاقات الدولية والأوزان الإقليمية، إن قيمة «مصر» بعد سنوات من «الإجهاد السياسى» و«الإرهاق الداخلى» و«المعاناة الاقتصادية» تنعكس بالضرورة على مقعد «المفاوض» أمام نظيره «الإثيوبى» أو حتى «السودانى»- فى موضوع «سد النهضة» على سبيل المثال- فالآخر ينظر إلينا لا بحب تاريخى أو تقارب جغرافى، ولكن بلغة المصالح- والمصالح وحدها- هى التى تحكم خياراته وتحدد سياساته، فهو يتعامل مع نقاط ضعفنا ولا يواجه عناصر قوتنا، إننا بحاجة ماسَّة فى ظروفنا الصعبة إلى مراجعة مؤشرات ثلاثة لابد من التركيز عليها:
أولًا: إعمال «فقه الأولويات»، وهى عبارة متداولة، ولكن يُحسن بعض المثقفين استخدامها فى موضعها المناسب مثلما فعل الدكتور «محمد حسن الحفناوى»، أستاذ الطب الشهير، ذات يوم، مخاطبًا النظام الأسبق عام 2010، وأنا أكرر هنا أن «فقه الأولويات» يعنى ضرورة الاختيار بين المهم والأهم، بين العاجل والآجل، بين حل المشكلات الضاغطة وإرجاء الأخرى التى تحتمل الانتظار، إن الفارق بين إنسان وآخر هو قدرته على ترتيب أولوياته، وينسحب الأمر على الدول أيضًا، إذ إن قيمة كل دولة تنبع من قدرتها على اختيار أولوياتها وصياغة سياساتها وفقًا لترتيب علمى مدروس يضع عنصر الزمن فى الحسبان، ويراعى الظروف المحيطة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ولاشك أن القدرة على الاختيار والمفاضلة بين البدائل هما أمران لازمان للتطبيق الصحيح لـ«فقه الأولويات».
ثانيًا: إن وجود تصور طويل المدى لمسيرة الدولة خلال عقدين أو ثلاثة أمر لازم، إذ إن الارتجال والمضى فى مسارات مضطربة واتخاذ قرارات مرتعشة، مع النظرة الدائمة إلى استرضاء الرأى العام، هذه كلها كوابح مُعطِّلة لـ«قطار النهضة»، لأنها تعنى أننا نستخدمه دون وعى بـ«المحطة»، التى نتوقف عندها لكى نراجع المسيرة ونبحث فيما نجحنا فيه وحققناه وما فشلنا فيه وكنا نتمنى لو أنجزناه، إن المعادلة ليست صعبة كما نتوهم، فهى تبدأ بحصر مشكلاتنا الكبرى والتصدى لها على امتداد جبهة عريضة تبدأ بـ«التعليم» و«الصحة» وتمر بـ«العشوائيات» حتى تصل إلى نقطة التقاء مع «العدالة الاجتماعية»، التى يطالب بها المصريون منذ عدة قرون.
ثالثًا: إن توظيف الموارد البشرية المصرية مازال يمثل معضلة كبرى على الساحة الوطنية نتيجة التأرجح بين «أهل الخبرة» و«أهل الثقة»، بين الأقرب الأقل علمًا والأبعد الأكثر معرفة، بين مَن يمتلكون التجربة وأولئك الذين لا يملكون إلا الحظوة، إن المورد البشرى المصرى شديد الثراء، لأنه غنى بطبيعته، إذ إن لدينا فى كل فرع من فروع المعرفة مئات الخبراء، ولكننا لا نعمل بأسلوب يحقق الهدف المدروس، ولا نضع الشخص المناسب فى الموقع الملائم، رغم أن الهدف النهائى هو تعظيم الفائدة من التجمع البشرى الذى ينتسب لهذا الوطن «العجوز»، فما أكثر الخبرات المستبعدة والكفاءات المُهَمَّشة والعقليات التى يجرى تجاهلها! بينما الوطن يحتاج إلى ما يملكه كل أبنائه من عقل وحكمة وفكر مستنير يقوم على المعرفة الحقيقية والأخذ بعلوم العصر وأدواته، فالموارد البشرية هى صانعة التقدم مثلما أن الموارد الطبيعية هى مصدر الثروة.
إننى أعلم أن «مصر» تمضى وراء قيادة وطنية نظيفة، لذلك يجب دعمها بأغلى ما يملكه الوطن، وهو «العقل الجمعى المستنير»، فالنجاح والإنجاز والتقدم هى قرارات عقلية مثلما أن الإخفاق والتراجع والفشل هى قرارات عقلية أيضًا، إن الإرادة الوطنية إذا اقترنت ببرامج إصلاحية فإن الوطن يمضى بالضرورة على الطريق الصحيح.