مصطفى الفقي
شعرت بارتياح ورضا وأنا أتابع أخبار انفتاح «الأزهر الشريف» متمثلًا فى إمامه الأكبر على العالم الخارجى، إسلاميًا وغير إسلامى، فلقد كان يلفت نظرى دائمًا أن رحلات الأئمة الكبار تتركز صوب الأراضى المقدسة فى «المملكة العربية السعودية» وإلى بعض دول «الخليج»، ولكن زياراتهم كانت قليلة لدول العالم الإسلامى وتكاد تكون نادرة لدول «الغرب المسيحى»، وأنا ممن يظنون أن «الأزهر» بقيمته ومكانته ليس ملكًا لـ«مصر» وحدها إنما هو أكبر مركز إسلامى فى العالم وتنظر إليه الدول المختلفة باحترام وتقدير، ولا أنسى يوم احتشد ملايين البشر فى أحد ميادين «دلهى» القديمة بـ«الهند» ينتظرون المبعوث الأزهرى القادم وقارئ القرآن المصرى الذى سوف يرتل الذكر الحكيم أمامهم، وآمنت منذ وقتها بالدور الخطير لهذه المؤسسة الدينية العالمية، وفى ذات الوقت أدركت أهمية انفتاحها على العالم الخارجى بكل ثقة وتوازن، انطلاقًا من تاريخها المجيد واسمها الكبير وعلمائها الذين ينتشرون فى بقاع المعمورة، فالدنيا كلها تعرف «الأزهر» الذى يمتلك رصيدًا ضخمًا من المهابة والاحترام لدى الحكومات المختلفة والمؤسسات الدينية من كل الديانات فى عالمنا المعاصر، ويهمنى هنا أن أركز على عدة نقاط تبدو لى متصلة بدور «الأزهر» فى هذه الظروف التى تحيط بالعالمين العربى والإسلامى:
أولًا: إن المقام الرفيع للإمام الأكبر يجعله سفيرًا للعالم الإسلامى كله أمام الآخر، فى وقت تتزايد فيه الاتهامات ضد هذا الدين الحنيف وتحاول النيل منه والتحريض عليه، ولا شك أن اللقاء المباشر بين أكبر شيوخ الإسلام والدوائر الرسمية والفكرية والثقافية فى الخارج، خصوصًا فى «أوروبا» و«الولايات المتحدة الأمريكية»، سوف يكون له تأثيره القوى فى دحض الأراجيف ومواجهة الأكاذيب على الإسلام والمسلمين، خصوصًا أن فى «الغرب» آذانًا صاغية وعقولًا متفتحة لا تخلو من موضوعية دائمًا، ولا تفتقد الحياد أحيانًا فهى مستعدة للاستماع والاحتكام إلى ذوى الرأى والرؤية عندما تصلهم الأمور بصدق وشفافية وبلغة مفهومة، تمثل عقلية إنسانية مشتركة يستظل بها الجميع فى ظل شراكة عصرية غيرت المفاهيم وبدلت الأوضاع وجعلتنا أمام مخاطر مشتركة فى عالم اليوم، وما أكثر علماء الإسلام الذين ارتحلوا إلى الخارج عبر السنين، ولعل أشهرهم هو الإمام «محمد عبده»، كما أن علماء الإسلام الذين درسوا فى «الغرب مثل الشيخين الأخوين عبدالرازق» و«عبدالحليم محمود» و«محمد البهى» و«أحمد الطيب» و«محمود زقزوق» وغيرهم من علمائنا الأجلاء هم الذين أدركوا قيمة الاحتكاك الثقافى والتقارب الفكرى، وكانوا هم القادرين على إبلاغ الرسالة ونقل المعرفة بصحيح الدين إلى من يفتقدون ذلك.
ثانيًا: إننا نرسل سنويًا دعاة إلى مختلف بقاع العالم الإسلامى وإلى الجاليات الإسلامية فى الخارج، ولكننى لاحظت أن معظمهم يفتقد التأثير الحقيقى بسبب حاجز اللغة أحيانًا والعجز عن فهم طريقة التفكير لدى الغير أحيانًا أخرى، فيبدو كل ما يقولونه وكأنه ترديد لآراء نقلية لا يؤمن بها الطرف الآخر ولا يعتد بمضمونها، بينما الإسلام هو دين العقل الذى جعل التفكير فريضة فيه، واحترم الإنسان وأعلى من قدره، ودعا إلى المساواة بين البشر دون تمييز بسبب لون أو جنس أو لغة، لذلك كله فإن الدعوة الإسلامية فى الخارج يجب أن تتأسس على دراسات واعية للعقول التى تستقبل الطرح المعاصر لشرح دين الله الحنيف وإثبات براءته من الشوائب التى طرأت عليه من غلاة المتطرفين ودعاة العنف وصناع الإرهاب، فالإسلام من كل ذلك براء، وتلك هى مسؤولية رجل الدين المتفتح الذى يضىء الأنوار ويفتح الأبواب أمام الاجتهاد الذى يلتزم بالثوابت ولكنه يستلهم روح العصر فى رفضه التشدد والتعصب والتعنت.
ثالثًا: إن عودة حركة «الابتعاث الأزهرى» إلى الخارج أمر أصبح ضروريًا حتى يعود الأزهريون إلى الوطن برؤية مختلفة، واطلاع واسع على المعارف الأخرى، مع التعرف على طبيعة الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية، فالرؤية الشاملة هى مصدر التنوير والتعريف السليم بالإسلام، مع عودة المبعوثين بلغات أجنبية حية يتحدثون بها لدى أصحابها مع احترامهم للأفكار الأخرى وفهمهم لثقافة الاختلاف بين البشر، فالتنميط هو فلسفة الوجود ولو شاء الله لجعلنا أمة واحدة، ثم إن الأزهرى العائد هو قبس من نور أضاء الدنيا حوله بدءًا من «رفاعة رافع الطهطاوى» حتى اليوم.
رابعًا: لو عرف الأزهريون قدرهم لدى الدول المختلفة والشعوب الأخرى لشعروا باعتزاز حقيقى، ومازلت أتذكر حين طلبت منى وزيرة خارجية «النمسا» عندما كنت سفيرًا لـ«مصر» فى «فيينا» أن يقبل «الأزهر الشريف» الإشراف على أكاديمية إسلامية لتخريج الدعاة وتعليم الإسلام للأوروبيين، فالغرب مبهور باعتدال «الأزهر» ووسطيته الفكرية فضلًا عن أن عمره الطويل قد جعل له أصدقاء ومريدين فى أنحاء الأرض، لذلك يجب أن نبنى على هذه المصداقية لعلنا نواجه الأباطيل التى أحاطت بالدين ودعاته وأتباعه.
خامسًا: لن أملّ من تكرار قضية العناية باللغات الأجنبية فى «الأزهر الشريف»، خصوصًا أن كلية «اللغات والترجمة» فى تلك الجامعة العريقة قد نجحت بشكل ملحوظ وهو ما يجعلنا نسعى دومًا إلى الاهتمام باللغات الأجنبية فى «الأزهر الشريف»، خصوصًا أن نبى الإسلام هو القائل من تعلم لغة قوم أمن مكرهم، إننا ننطلق من ذلك إلى المناداة بضرورة تحديث الأزهر من حيث مناهج الدراسة وأساليب الدعوة وإعداد الداعية المسلم الذى يملأ الدنيا حوله علمًا وسماحة ورضا، وليس ذلك بعزيز على الإمام المستنير «أحمد الطيب» ومعاونيه فى «جامعة الأزهر» والمعاهد الدينية، لأن الوقت يداهمنا والافتراءات تتوالى على ديننا وليس أمامنا إلا أن نقف بكلمة الحق فى المواجهة؛ إذ إن «مصر» هى رأس الحربة فى العالمين العربى والإسلامى.