إهدار الموارد البشرية المصرية

إهدار الموارد البشرية المصرية

إهدار الموارد البشرية المصرية

 تونس اليوم -

إهدار الموارد البشرية المصرية

مصطفي الفقي

لا أعرف دولة فى عالمنا المعاصر أهدرت مواردها البشرية مثلما فعلنا، نحن المصريين، فقد عودتنا الإدارات الحكومية المتعاقبة أن تكون «مصر» بلدًا طاردًا للخبرات، قاتلًا للكفاءات، مهدرًا لما يملكه الوطن من مقومات. إن «مصر» تتيح تعليمًا حكوميًا مجانيًا بما فى ذلك كليات الطب والصيدلة والهندسة ويبحث الخريجون بعد ذلك عن المطارات هاربين من وطن قدم لهم التعليم العالى ـ رغم رداءته ـ ولكنهم يصبحون قادرين بما يحملون من درجات علمية ولو شكلية على الحصول على مواقع عمل ومقاعد دراسات عليا، وتحصد الدول الغنية عرق الدول الفقيرة ودماء أبنائها لتبنى هى قواعد التميز إذ إن اللافت للنظر هو أن المصريين الذين لم ترحب بهم بلدهم ولم تستوعبهم أرضها قد خرجوا منها بحثًا عن الرزق أو طلبًا للحرية أو رغبة فى إرضاء طموحات مشروعة، و«مصر» فى كل الحالات هى الخاسر الأكبر فهى التى فرطت فى جيش ضخم من العلماء والمفكرين وذوى الكفاءات المتميزة، لأنها لم تكن حريصة فى الوقت المناسب على استيعاب من تعلمهم ولم تربط أبدًا بين معدلات التشغيل المتاح ومعدلات التعليم الممكن، وركز المصريون فى بلاهة ملحوظة على الألقاب العلمية الكبيرة والدرجات الأكاديمية الصاخبة على حساب البناء الفعلى لدولة عصرية حديثة بينما «الطيور المهاجرة» تحلق فى سماوات الدول الأخرى، دعنا نرصد هنا بعض المحاور المرتبطة بهذا الموضوع:

أولًا: لن نمل من تكرار حقيقة مؤداها أن التعليم المصرى هو سبب البلاء فى كل مشكلاتنا المعاصرة، لأن العملية التعليمية خرجت عن تقاليدها المعروفة وأصبحت حشودًا عددية من تلاميذ بؤساء لا تتوافر لديهم أسباب التربية ولا مناهج التعليم فضلًا عن فقر القدرات لدى المعلمين والدفع بهم إلى حجرات الدراسة أمام أكثر من ثمانين طفلًا أو غلامًا يصعب عليهم المشاركة ناهيك عن الاستيعاب، وبذلك تحول التعليم المصرى فى معظمه إلى عملية إهدار واسعة النطاق بل مصدر للتمييز بين أبناء الشعب الواحد نتيجة لوجود عدد من الأنظمة التعليمية المختلفة بين أجنبية ومصرية، وخاصة وعامة، ودينية ومدنية فضاعت فى هذا الزحام المواهب والكفاءات، وتاهت عناصر التميز التى تعودت عليها «مصر» بالقرنين التاسع عشر والعشرين عندما كانت هى مصدر الإلهام ومبعث التنوير ومركز الإشعاع فى المنطقة كلها.

ثانيًا: تملك «مصر» باعتبارها واحدة من أقدم الدول المركزية فى التاريخ البشرى كله واحدًا من أعرق النظم الإدارية بما أصابه من شيخوخة واعتراه من ترهل، فـ«السلطة التنفيذية» فى «مصر» متغولة بطبيعتها فأصبح كل شىء مركزيًا بالضرورة وهو ما يحجب الكفاءات ويهدر المواهب، وقد لاحظت على سبيل المثال أن كثيرًا من أساتذة الجامعات الإقليمية وحتى فى المحافظات النائية هم من المتفوقين علميًا والمتميزين فكريًا ولكنهم لا ينالون ما يستحقون فى زحام نظام إدارى سيئ وعملية تعليمية أكثر سوءًا، أننا نتطلع إلى إدارة حديثة وتعليم عصرى إذا كنا نريد الحفاظ على مواردنا البشرية.

ثالثًا: إن من الأمور المثيرة للسخرية أن نرى الآلاف من حملة الماجستير والدكتوراه وقد لا تكون الدولة فى حاجة إليهم بحكم تخصصاتهم التى تجعل من هذه الدرجات العلمية العالية نوعًا من الأبهة والمظهرية أكثر منها شراكة فى التنمية والإنتاج، فـ«مصر» بحاجة إلى جيش كبير من الفنيين ذوى المهارات المطلوبة ممن يحملون درجات دراسية قامت على التدريب المهنى بالأساس أى ما يسمى نظام «بوليتكنيك» وهو أقرب إلى نظام معاهد التدريب العليا التى عرفتها «مصر» منذ عشرات السنين ومنها معهد «دون بوسكو» الإيطالى فى «القاهرة» ونظائره التى تجمع بين التعليم والتدريب فى وقت واحد فذلك ما تحتاجه «مصر» وليس بالضرورة إلى أن ترصع أكتافها بالنجوم اللامعة من حملة الماجستير والدكتوراه فى تخصصات غير مطلوبة بمنطق جمع الدرجات العلمية وطبع الكروت الشخصية.

رابعًا: لقد كان ارتباط ثورة يوليو 1952 بمشروعات كبرى فى مجال التصنيع أمرًا له دلالته فى تحويل «مصر» من مجتمع زراعى فقط إلى دولة صناعية ناهضة، ولكن ذلك جرى إجهاضه بفعل سياسات الانفتاح غير المنضبط والتى فتحت الباب على مصراعيه للواردات الأجنبية الضرورية وغير الضرورية، وكلما تذكرت سنوات عملى فى «الهند» وقارنت بينها وبيننا فى هذا السياق أدركت حجم الجريمة التى ارتكبناها فى حق أنفسنا ومستقبل أجيالنا القادمة.

خامسًا: إن الإقصاء لأسباب سياسية أو اجتماعية أوثقافية أو دينية هو إهدار مباشر لما نملكه من كفاءات، فما أكثر ما حرمت «مصر» نفسها من خبرة كبيرة أو كفاءة عالية نتيجة القطيعة مع الماضى أو وضع حواجز تحول دون مرور الأقليات العددية نحو صدارة المشهد، وهنا أتذكر «الهند» مرة أخرى التى تعاقب عليها ثلاثة أو أربعة من رؤساء الجمهورية المسلمين لبلد تمثل الأغلبية الساحقة فيه الديانة «الهندوسية»، بل لقد وصل إلى موقع رئاسة الوزراء مواطن من «السيخ» الذين يمثلون 2% من السكان، فالموانع التى تتصل بالانتماء السياسى أو العقيدة الدينية أو الوضع الطبقى يجب أن تزول لأن فيها نوعا من التفرقة والتمييز الذى يؤدى إلى تهميش الكفاءات وإهدار القدرات وحرمان الخبرات.

تلك قراءتنا لهذا الملف الشائك الذى يجب أن نتقدم نحوه فى جسارة وشفافية ووضوح قبل فوات الأوان.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إهدار الموارد البشرية المصرية إهدار الموارد البشرية المصرية



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 06:31 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

تنعم بأجواء ايجابية خلال الشهر

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 15:20 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

قد تمهل لكنك لن تهمل

GMT 09:20 2016 الثلاثاء ,22 آذار/ مارس

فوائد صحية وجمالية لعشبة النيم

GMT 18:17 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

إنجي علي تؤكّد أن مصر تتميز بموقع فني عالمي رفيع

GMT 13:10 2013 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الــ " IUCN"تدرج "الصلنج" على القائمة الحمراء

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia