مصطفى الفقي
يرقد الأديب الكبير والروائى اللامع والمؤلف الموهوب «جمال الغيطانى» على فراش المرض فى مواجهة أكبر محنة صحية اعترضت حياته التى لم تكن سهلة أبدًا، إن «الغيطاني» حارس التراث وعاشق «القاهرة» وشاهد العصور والأزمنة لا يزال فى غيبوبة نسأل الله أن يفيق منها معافًى سالمًا، ولا زلت أتذكر يوم هاتفته فى نهاية القرن الماضى وهو على فراش المرض أيضًا لإجراء «جراحة القلب المفتوح» وكانت معنوياته عالية ومخاوفه محدودة رغم أن جراحة القلب كانت لا تزال وقتها شيئًا مقلقًا، إنه «جمال الغيطانى» المراسل العسكرى الذى جاب ميادين القتال ورصد المعارك بعد أن قذف به صعيد «مصر» إلى «القاهرة» ليشق طريقه وسط جيل منتصف الستينيات الذى بدا بريقه يلمع فى السبعينيات من القرن العشرين فعاش أجواء «العصر الناصرى» بما فيه من صخب قومى وضوضاء سياسية ومعارك من أجل التحرر الوطنى وتأكيد السيادة بعد الاستقلال، ولم يكن الطريق مفروشًا بالورود ولا معبًدا للسير السريع فالمنافسة شديدة والثقافة السياسية طاغية والأدب والفن يمضيان على خطى القائد وثورته، «الأبنودى» ينشر أشعاره و«عبد الحليم حافظ» يردد أغانيه الوطنية، و«مصر» كلها تكاد تمضى على قلب رجل واحد، فى ذلك الوقت بدأ «الغيطانى» ينبش فى زوايا التراث يستهويه «العصر المملوكى» دائمًا وتجذبه «الآثار الفرعونية» أحيانًا أخرى ويشده «التراث الإسلامى» فى أحضان «القاهرة الفاطمية» فيستوحى من كل ذلك مادة خصبة لرواياته التى أصبحت مزيجًا من فنون الرواية فى الأدب وفصول الحياة فى التاريخ، ولقد خاض «الغيطانى» معارك ضارية مع خصومه سواء على صفحات «مجلة الأدب» التى ترأس تحريرها قرابة عقدين من الزمان أو «صحيفة الأخبار» التى كان فارسها البارز وكاتبها المرموق لسنوات طويلة، ولا زلت أذكر كيف كان «الغيطانى» قلقًا وحزينًا عندما تعرضت السيدة الفاضلة قرينته الكاتبة الصحفية أ. ماجدة الجندى لأزمة صحية والتى تعافت منها بحمد الله، وتضم الأسرة الصغيرة ابنًا هو دبلوماسى شاب يشق طريقه بتفوق واضح فى مجال المنظمات الدولية، وابنة ذات تميز أكاديمى وخلقى مشهودين، ولقد رافق «الغيطانى» أديب «نوبل» الكبير «نجيب محفوظ» فى سنوات عمره الأخيرة كواحد من المثلث الذهبى الذى أحاط بذلك الروائى الراحل وأقصد بهم «جمال الغيطانى» و«محمد سلماوى» و«يوسف القعيد»، ولقد أتاحت لى الظروف أن أشهد بعض لقاءاتهم فى حضرة أديب العربية الكبير بفندق «شبرد» بـ«القاهرة» واندهشت كم كان الرجل مرحًا وهو يداعب تلاميذه ويستقبل ضيوفه، وقد كان «الغيطانى» مؤمنًا بالعم «نجيب» الذى كان يرى بدوره فى «الغيطانى» صورة من شبابه، ولقد غابت «جائزة النيل العليا» عن «الغيطانى» لعدة سنوات فى وقت كانت ترجمات رواياته باللغات الأجنبية تملأ أركان الدنيا، والجوائز تغيب أحيانًا عن الموهوبين فقد تأخرت عن الشاعر الكبير «أحمد عبد المعطى حجازى» لعدة سنوات حتى نالها، وقد حصل عليها «الغيطانى» بعد سنوات قليلة من حصول الروائى الكبير «بهاء طاهر» صاحب «صفية والدير» عليها، ولا زلت أتذكر أن «الغيطانى» لم يحادث أحدًا فى شأن ترشحه لتلك الجائزة ولكننى كنت أحد المتحمسين له والداعين لاختياره وقد كسب بالتصويت بعد جولتين أو ثلاث وعاد يومها إلى قاعة «المجلس الأعلى للثقافة» أثناء انعقاده ليجرى استقباله بالتصفيق الحار من الجميع، ولقد تميز «الغيطانى» دائمًا بالكبرياء، واحترام الذات، والرغبة فى أن يبدى رأيه فى شجاعة دون تردد أو خشية، إن «جمال الغيطانى» يقف على أعتاب جيلين من المشتغلين بالأدب والمهتمين بفن الرواية والذين تعاطوا الأمر من بدايته كهواية ثم حرفة ثم مهنة، إنه يمثل نموذجًا لأدباء الأقاليم الذين قد لا تحسن العاصمة استقبالهم فى البداية!
ولعل «الغيطانى» يمثل النموذج الأمثل لذلك ولكنه يتميز عن غيره بأنه عاش فى «القاهرة» سنوات عمره الباكرة واختلط بالحوارى الضيقة والشوارع التاريخية وتجول بين «المزارات الإسلامية» حتى أصبح يعرف «شارع المعز» مبنى مبنى، ولقد تجولت معه ذات مرة بعد تجديد ذلك الشارع وهالنى أنه يعرف تفاصيل عن كل «مسجد» أو «ضريح» أو «سبيل» أو منزل أثرى على نحو يدعو للدهشة، كما أنه راوية كبير وحكاء متميز للأحداث التاريخية التى مر بها الشعب المصرى خلال معاناته الطويلة، ولقد حظيت كتاباته بتقدير كبير لدى النقاد الأجانب واعتبره المعنيون بالأدب العربى والرواية المصرية امتدادًا لجيل الآباء رغم أنه كان أقرب إلى جيل الأبناء، لذلك نؤمن دائمًا أن الغيطانى يعبر عن جيلين فى وقت واحد ويعتبر جسر التواصل فى الأدب والرواية بين القدامى والمحدثين، ولقد اتخذ الرجل دائمًا مواقف سياسية التزم بها ودافع عنها من خلال وعيه الكامل بالتاريخ وقراءته النقدية لأحداثه وسرده الروائى لأهم محطاته.. إن «جمال الغيطانى» علامة فارقة فى تاريخ الأدب المصرى.. نسأل الله أن يتواصل عطاؤه قدوة لأجيال قادمة.