جـــــيـــــلُ عـــــائـــــلــــــةِ صــــفــــوان

جـــــيـــــلُ عـــــائـــــلــــــةِ صــــفــــوان

جـــــيـــــلُ عـــــائـــــلــــــةِ صــــفــــوان

 تونس اليوم -

جـــــيـــــلُ عـــــائـــــلــــــةِ صــــفــــوان

سجعان قزي

الجيلُ اللبناني الحالي مكتومُ القيد، وإذا وَقع على نَسبٍ كان الاحباطُ والدَه والمتاهـةُ أمَّــــه والذكرياتُ أجدادَه. لا هو ابنُ دولةٍ ولا ابنُ وطن، لا ابن نظام ولا ابن ثورة. لا ابن إقطاع ولا ابن أحزاب. لا ابن مدينة ولا ابن ريف. هو كلُّ هذه الانتماءاتِ وضحيــتُـــها في آنٍ، لأنها وَحداتٌ ملتبِسةٌ وغيرُ مطابقةٍ للمواصفات. وما يزيد وجعُ هذا الجيل، أنّ وعــيَــه المباشَر بات مقتصراً على العصبيةِ الدينية والطائفية والمذهبية، ومَن مِنه شَــرد نحو العلمنةِ، عُــزل كالمصابِ بالــبَرص. لقد جُــــرِّد هذا الجيلُ من الآفاقِ الحضارية وبات أسيرَ منظومةِ الفراغ الوجودي وعمقِ البحار.

يَحارُ الجيلُ اللبناني الحالي أيهما يختار: سكينةَ الانصياع أو شرفَ التمرد، صعوبةَ البقاءِ أو سهولةَ الرحيل، واجبَ الاكتراثِ لما يَحدُث أو التزامَ اللامبالاة حيالَه، تغييرُ النظام (أيّ نظام؟) أو الطبقةِ السياسية (أيّ طبقة سياسية؟).

أتحدث عن جيلٍ يَــضُم أجيالاً عدةً وحَّــدتها المعاناةُ المشتركة. فتحديد "الجيل" مزدوجٌ في عِلم الاجتماع. فهو فئةٌ من شعبٍ تجمعُــها مرحلةٌ زمنية واحدة، أو شعبٌ متعدّدُ الاعمارِ ينتمي إلى معاناة واحدة (جيلُ عائلةِ صفوان). المعني هنا هو الشعب اللبناني الذي، بأكمله وعلى اختلافِ أجياله الــعُمرية، يبدو جيلاً واحداً ينتمي إلى مرحلةٍ تاريخية ونفسانية تتحكّم بنشأته وتُـــكــــيِّــف مسارَه منذ ربعِ قرن تحديداً. كلنا شبابٌ وكلنا كهول، كلنا قلقون على اليوميات والمصير. كلنا أبناءُ شكوى عِوض أن نكونَ أبناءَ الرجاء. لا الشبابُ يتعرفون على مستقبلهم، فالقدرةُ عاجزة؛ ولا الكهولُ يتذكرون ماضيهم، فالحكمةُ معطَّــــلة. يوحِّــــدهم الذهولُ أمام متانةِ الانحطاط وهشاشةِ النهضة وفشلِ التغيير، فيكـــــبُر السأمُ الوطني.

الجيلُ القديم، جيلُ الميثاقِ الوطني والمقاومة اللبنانية، ناضل من أجل تثبيتِ وطن. الجيلُ الحالي، جيلُ ما بعدَ الحرب والاحتلالات، يناضل من أجل بناء دولة. في مسيرته نحو الوطن كاد الجيلُ القديم أن يُــطيحَ بالدولةِ القائمة فكانت الحروب، وفي مسيرته نحو الدولة يُـهمل الجيلُ الحالي الوطن النموذجي فكانت الانتفاضات. وإذا كان هذا النضالُ المكبوح وَحّــد الجيلين، فإنه أسّس للفراغِ المتوالي على صعيد الوطن والدولة والنظام والقيم.

بعد الحربِ العالمية الثانية عرفَت شعوبٌ أوروبية وآسيوية ظاهرةَ الجيلِ العابرِ الاجيال، لكنها سارعت وبَنت دولَها ووحّــدت مجتمعاتِــها وأعادت ترسيمَ الحدودِ بين أجيالها على أساس دولة القانون والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والخصائص الحضارية. أما في لبنان، فأمــعَــنّــا السيرَ عكس منطقِ

التطور: رمّمنا دولتنا بموادَّ مستعملَة ومتفجِّرة، ورسمنا حدودَنا بالمياهِ والألوان، وربطنا استقلالنا بمشاريع الآخرين، وأطلقنا عجَلةً اقتصادية وإنمائية فئوية تركت انطباعاً بأن الدولةَ للأغنياء والمجتمعَ للفقراء.

لقد تغافلَت الطغمةُ الطائفية في البلاد (هذه هي الكلمة المناسِبة)، منذ التسعيناتِ إلى اليوم، عن أنَّ النظامَ اللبناني، قبلَ الطائف وبعدَه، يَــنُـص على تكافؤِ الفرص والمساواةِ والعدالةِ الاجتماعية والانماءِ المتوازن. أقامت هذه الطغمةُ نظاماً رديفاً مبنياً على الفسادِ والمالِ والارتهانِ من دون فصلٍ بين هذه الرذائل الثلاث، واستخدمت النظامَ الأساسي واجهةً تجميلية للنظام الرديف. وحين تفترق الدولةُ عن نظامِــها الدستوري تصبح سلطةً خارجَ شرعيةِ الدولة ومنطوقِ النظام، ويَـــحِلُّ الانقضاضُ عليها.

منذ التسعينات، والسلطةُ الوصـيَّةُ علينا والــمُوصى عليها، تُـــــركز عنايتها على الملفات المالية والاقتصادية على حساب القضايا الاجتماعية والشعبية. مشاريعُنا السياسيةُ فئويةٌ ومشاريعنا الاقتصادية طبقية وخدماتنا الاجتماعية انتقائية. شعبٌ بلا كهرباءَ، بلا مياهٍ، بلا شبكةِ اتصالاتٍ محترَمة، بلا شبكةِ طرقٍ عامة، بلا نقلٍ مشترَك عام، بلا فرصِ عمل، بلا نظامٍ تقاعدي، بلا ضمانِ شيخوخة، بلا أجورٍ مطابِقةٍ لغلاء المعيشة، بلا مساكنَ شعبية، بلا تعليمٍ رسمي عصري، بلا موازنةٍ للشباب، بلا مسابحَ للفئاتِ الشعبية، بلا إشاراتِ طرقٍ، بلا بيئةٍ نظيفة، بلا فنونٍ راقية، بلا بهجةٍ طبيعية. رغم كلِ هذه النواقص الأساسية نُـــصِـرّ على اعتبار أنفسِنا بأحسنِ حالٍ، فيما ليس عندنَـــــا من مظاهرِ المجتمعِ المزدهِر سوى استقدامِ العاملاتِ المهاجرات للخِدمة المنزلية، والعيشِ فوق طاقتنا، والانفاقِ أكثرَ من دَخْــلنا، والاستقراضِ دون حاجةٍ ملحة.

كل ذلك يؤسس لقيامِ جماعاتٍ متناقضة ضمن المجتمع الواحد بما يتنافى ومبدأ المساواة وحقوقِ الانسان. وهذا يؤدي بدوره إلى انفجار المجتمع وانهيارِ الوِحدة الوطنية وبالتالي الدولة. إننا نعيش ونتعايش مع مجموعةِ صراعاتٍ طبقيةٍ ومناطقية ودينية وتربوية وإنمائية، كل واحدٍ منها يكفي بمفرده لإسقاط بلد. أما نحن فلا نزال هنا. نَغضب حتى حدودِ الثورة نهاراً، ونفرحُ حتى حدودِ الثمالة ليلاً؛ وفي اليومِ التالي، نواصل حياتَــنا الرتيبةَ كالمريض الذي يتجاهل مرضَه ويتقصَّد عدمَ قراءةِ نتائجِ فحوصه الطبية.

من دونِ التوغُّــل في النَـــدْب، عائلةُ صفوان، هذا الصوتُ الصارخ من أعماق المياه، التي غَرقت بين المياهِ واليابسة على شواطئ البوسفور، تَختصر دولةَ لبنان في ربع القرن الأخير، بل تؤكد حقيقةَ "الجيل الواحد" حيث مات منها أبناءُ الستين والأربعين والعشرين والعشر سنوات. أربعة أجيال في جيل واحد، بسبب معاناة واحدة، بحثاً عن أمل واحد: الحياة الكريمة، ورفضاً لواقع واحد: طُــغمةُ الدولة.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جـــــيـــــلُ عـــــائـــــلــــــةِ صــــفــــوان جـــــيـــــلُ عـــــائـــــلــــــةِ صــــفــــوان



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia