الناسُ هُمُ التفاؤل والدولةُ هي التشاؤم

الناسُ هُمُ التفاؤل والدولةُ هي التشاؤم

الناسُ هُمُ التفاؤل والدولةُ هي التشاؤم

 تونس اليوم -

الناسُ هُمُ التفاؤل والدولةُ هي التشاؤم

بقلم - سجعان القزي

الدولةُ اللبنانيّةُ تدعو الناسَ إلى التفاؤلِ وتُقدِّمُ لهم القَرَف، والناسُ يَتمنّون التفاؤلَ ولا يَجِدون سَنداً له في أعمالِ الدولة. الدولةُ تُشِيعُ التفاؤلَ لإعطاءِ انطباعِ أنَّ ممارساتِها المغلوطةَ هي صحيحةٌ، والشعبُ اللبنانيُّ يَجفُلُ رُغمَ طبيعتِه المتفائِلة، فعينٌ لا ترى نَفسٌ لا تتفاءَل. لقد جرى تَسييسُ كلمتَي «تفاؤلٍ» و«تشاؤمٍ». صارا مِحورَيْن. وباتَ الشعورُ النفسيُّ بالتشاؤمِ تجاهِ الوضعِ الملوَّثِ، موقِفاً سياسيّاً نُعاتَبُ عليه.

عَلاوةً على أنَّ التفاؤلَ والتشاؤمَ وِجْهتَا نظرٍ في الحياةِ اليوميّة، هُما نظرَتان فلسفيّتان إلى الإنسانِ والمجتمعِ والحياةِ والكون. التفاؤلُ هو الثقةُ بالمستقبَلِ لا بالطَقس، والتشاؤمُ هو الخوفُ على المصيرِ لا على اللحظة. وكِلاهُما يتساوى في حثِّ الفردِ على النضالِ والثورةِ والتغيير. التفاؤلُ إيجابيّةٌ والتشاؤمُ صدمةٌ إيجابيّة. لكن التفاؤلَ الوَهميَّ أسوأُ مِن التشاؤمِ الُمطلَقِ لأنّه يُبَنِّجُ الذاتَ ويُخِدِّر المجتمعَ ويَمنعُ التغيير. هذه حالُنا في لبنان.

التفاؤلُ المُفرِطُ ما مَنعَ الفيلسوفَ الألمانيَّ «ليبنيز» (Leibniz) في القرنِ السابعِ عشَرَ والمشهورَ بعبارتِه: «كلُّ شيءٍ على ما يُرام»، مِن أنْ يؤسِّسَ أجيالاً في علمِ الفلسفةِ والحِساب. والتشاؤمُ الحذِرُ ما مَنعَ الفيلسوفَ الفرنسيَّ، «ڤولتير» (Voltaire)، مِن أنْ يُطلِقَ «عصرَ الأنوارِ» في القرنِ الثامنِ عشَر ويُلهِمَ الثورةَ الفرنسيّةَ.

في سياقِ المقارِنةِ، أيُّهما أفضلُ: مواطِنٌ لبنانيٌّ يَقنَعُ بتقنينِ الشفافيّةِ والنزاهةِ والمياهِ والكهرباء، أو آخَرُ يَنقَمُ على التقنينِ ونحنُ في القرنِ الواحدِ والعشرين؟ الأوّلُ متفائلٌ نظريّاً لكنّه مُحبطٌ عمليّاً، أي متشائمٌ. والآخرُ متشائمٌ نظريّاً لكنّه متمرِّدٌ عمليّاً، أي متفائل.

في الدولِ المتقدِّمةِ حضاريّاً وعِلميّاً وإنمائيّاً، تَشعُر الشعوبُ بقلقٍ حَيَالَ المستقبَلِ وتَنتفِضُ، فكيف الحالُ بنا في لبنانَ وقد صِرنا في دارِ التخلّف؟ أظهرَ استطلاعُ رأيٍّ لمؤسّسةِ إيڤوپ (IFOP) الفرنسيّة أنَّ 59% من الفرنسيّين متشائمون بمستقبَلِ بلادِهم مقابلَ 41% متفائلون به.

لكنَّ المفارقةَ هي نتائجُ استطلاعِ رأيٍّ أجرتْه مؤسّسةُ «وِن غالوب» (Win - Gallup) الأميركيّةُ مع 64 ألفِ مواطنٍ في 65 بلداً، وأظهرَ التالي: 75% من الأفارِقةِ و67% من الأسيويّين و12% فقط من الأوروبيّين الغربيّين متفائلون بأيّامٍ فُضلى. أي أنَّ شعوبَ الدولِ الناميةِ أقلُ تشاؤماً من شعوبِ الدولِ المتقدِّمة (​أوروبا​). يعود التفسيرُ، في ظنّي، إلى الفوارقِ في سقفِ الطموحاتِ والمتطلّبات، وإلى اختلالِ مستوى الثقافةِ بين هذه الدول. صارت القناعةُ ميزةَ الفقراءِ المُعْوزين عوضَ أن تكونَ سِمَةَ الأغنياءِ الميسورين.

بحبوحةُ طبقةٍ اجتماعيّةٍ واحدةٍ لا تَعكِسُ صِحَّةَ المجتمعِ اللبنانيِّ بل تؤكدُ اعتلالَه. ولازِمةُ التطميناتِ الرتيبةِ عن الأمنِ والاقتصادِ والاستقرارِ التي يُكرِّرها المسؤولون مؤشِّرُ ضُعفٍ لا مؤشِّرَ ثقة. إنّها استراتيجيّةُ التسكينِ الإعلاميِّ لتغطيةِ العجزِ السياسيّ. أبعْدُ من هذا العهدِ أو ذاك، ومن هذه الحكومةِ أو تلك، أليس غريباً سلوكُ اللبنانيّين اللامبالي اجتماعيّاً والانهزاميُّ سياسيّاً؟

إنَّ ما يجري منذ سنواتٍ لا يَصُبُّ في مشروعِ بناءِ الدولةِ ولا في مشروعِ تقدّمِ الشعبِ اللبنانيّ، وكأنَّ مسارَ التجربةِ اللبنانيّةِ التحقَ بالمسارِ العربيِّ المتقَهْقِر. سنةَ 1920، بعد جولةٍ في ​تركيا​ والشرقِ الأوسط، كتبَ أرنولد توينبي (Arnold Toynbee) أحدُ كبارِ مؤرِّخي القرنِ الماضي: «لستُ واثقاً مِن أنَّ اتجاهَ تاريخِ هذه المِنطقةِ سيلتقي مع تقدُّمِ الإنسانيّة، ولا أجدُ مُبرٍّراً لتفاؤلِ بعضِ النُخب».

يَصطدِمُ التحليلُ السياسيُّ، ببُعدَيْه التاريخيِّ والرؤيويِّ، بميلِ الناسِ إلى القَبولِ بالمعالجاتِ الآنيّةِ لمشاكلِها على حسابِ الحلولِ الطويلةِ الأمَد. مع الوقت، يَتطَبّعُ الناسُ مع الأمرِ الواقِع، بينما المحلِّلُ يَتمرّدُ عليه فيختلِفُ عن هوى الناسِ المُستَكفِين. كأنَّ واجبَ المحلِّلِ أنْ يتشاءمَ ويُحذِّر، وحقَّ الناسِ أنْ يتفاءلوا ويُقْدِموا. هذا الواقعُ النفسيُّ والاجتماعيُّ يَجعلُ المحلِّلَ نقيضَ عدميّةِ الحاضرِ ويُوسَمُ بالسلبيّة. إنَّ الصيغةَ الفُضلى هي التوفيقُ بين حكمةِ المتشائمِ وإرادةِ المتفائل.

الناسُ في لبنان ليسوا ضِدَّ الطروحاتِ السياديّةِ والمعالجاتِ الجذريّة، لكنّهم يَستهوِلونَها خَشيةَ حدوثِ اضطراباتٍ تؤثِّر على حياتِهم اليوميّة. الناس تُحبُّ البِحارَ وتَخافُ الأمواجَ العاتيةَ. وأصلاً، قلّما عرَف التاريخُ ثورةً شعبيةً من دونِ قيادةٍ مُحرِّكة.

كان «جورج كليمنصو»، رئيسُ وزراءِ ​فرنسا​ في بداياتِ القرنِ الماضي، يَعتبر المسالِمين (les pacifistes) خِياليّين خطيرين ومسؤولين عن وقوعِ الحروبِ والهزائم، لأنَّ نظرتَهم الورديّةَ إلى «واقعِ الحال» (statu quo) تَضِرب معنوياتِ الأمّةِ وتُحطِّمُ طموحاتِها. وانتقَد «كليمنصو» بقساوةٍ «جان جوريس» (Jean Jaurès)، البرلمانيَّ الاشتراكيَّ المسالِمَ المتفائلَ الذي عارضَ دخولَ فرنسا الحربَ العالميّةَ الأولى، وقال عنه بعد وفاتِه: «لو كان جوريس رئيسَ وزراءِ سنةَ 1914 لاجتاحَ الألمانُ فرنسا».

مصدرُ التفاؤلِ الأساسيُّ في لبنان هو أملُ الناسِ بالحياةِ، لا عملُ الدولةِ للناس. في حياتِهم الخاصّةِ يَكتفي الناسُ بالملذّاتِ الصغيرة يُراكِمونها لتُؤلِّفَ سعادةً، أمّا في حياتِهم الوطنيّةِ فيَنشُدون إنجازاتٍ لتَحميَ مصيرَهم.

حياتُنا اليوميّةُ زاخرةٌ بالبُشْر: عيونُ أولادِنا، إبداعاتُ شبابِنا وشبّاتِنا، كَدُّ العاملِ وكَدْحُ الفَلاّح، تعبُ المزارِعِ وصِراعُ البَحّار، عِنادُ شعبِنا ومقاومتُه، انتشارُ المغتربين وإسهاماتُهم في تَقدُّمِ العلمِ والعالم، صمودُ اقتصادِنا وعُملتِنا الوطنيّة، حركةُ مطارِنا ومرافئِنا، نشاطُ المجتمعِ والناسِ عموماً، إلخ. لكنَّ جميعَ هذه الإيجابيّاتِ تحتاجُ إلى «الاستقرارِ المصيري». ويَنقُصها مِلحُ الدولة: هو مفقودٌ وهي غائبةٌ، وكلّما تَدخَّلت أفسَدَت وهَيمنَت وأقلقَت.

عادةً، الشعبُ يَخلُق مشاكلَ للدولة، أما في لبنان، فالدولةُ تَخلُق مشاكلَ للشعب. مَن يَدُلُّني على يومٍ واحدٍ، بما فيه أيّامُ الآحادِ والأعياد، مَرَّ من دونٍ اشتباكٍ بين أركانِ الدولة؟ ورغمَ ذلك، في الانتخاباتِ المفتَرضةِ، سنَفتديهم «بالروحِ والدَم»... وبالغازِ والنَّفط. ليس اللبنانيّون متشائمين أو متفائلين، إنّهم مازوشيّون. افتَحوا «المُنجِد»... أصلاً، نحتاجُ إلى مُنجِد.

المصدر:جريدةُ الجُمهوريّة

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الناسُ هُمُ التفاؤل والدولةُ هي التشاؤم الناسُ هُمُ التفاؤل والدولةُ هي التشاؤم



GMT 14:11 2021 الخميس ,19 آب / أغسطس

السلطةُ في الشارع فَمَن يَستلِمُها؟

GMT 17:34 2021 الخميس ,01 إبريل / نيسان

وطنُ الصَفْحِ والمصالحةِ والمصافحة

GMT 09:33 2021 الخميس ,18 شباط / فبراير

تكاملُ اللامركزيّةِ والتدويل في لبنان

GMT 14:03 2021 الخميس ,11 شباط / فبراير

نحن في. عز مؤتمر. دولي حول. لبنان

GMT 10:26 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

بايدن يَنتظِرُ إدارةً لبنانيّةً جديدة

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 02:37 2015 الإثنين ,19 تشرين الأول / أكتوبر

تعرفي علي أجود أنواع البلسم الطبيعي للشعر المصبوغ

GMT 02:12 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

سيرين عبد النور تتألق بالبيج والنبيتي من لبنان

GMT 06:35 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك نجاحات مميزة خلال هذا الشهر

GMT 16:23 2019 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

تعرف على المطاعم في العاصمة الكينية "نيروبي"

GMT 18:51 2019 الجمعة ,28 حزيران / يونيو

السمك يحمي صغيرك من الإكزيما
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia