يوميات الطوفان

يوميات الطوفان

يوميات الطوفان

 تونس اليوم -

يوميات الطوفان

عريب الرنتاوي

أسوأ ما انتهينا إليه بعد أشهر من الذبح والتحريق وتمزيق الأعناق والأطراف، هو فقداننا للقدرة على “الدهشة” ... أمس كنت أحدث زميلة لي عن آخر جرائم داعش في البغدادي، عندما أقدم “مجاهدو التنظيم” على ذبح طفل في ربيعه الخامس، ضلّ عن أهله، لم أر أية علامة تعجب أو استنكار، فقد جاء جوابها بارداً كالثلج: وما الجديد أو الغريب في الأمر؟ ... ألم يحرقوا الأحياء ويسبوا النساء ويدمروا المنازل؟ ... من يقتل بالجملة، لن يتورع عن ممارسة هوايته في القتل “بالمفرق”.
وأمس الأول، كنت أحدث سيدة فاضلة، كانت تربوية ذات يوم، قبل أن تعود لدورها التقليدي في مجتمعنا، زوجة وأم وربة منزل فاضلة... هل شاهدت جريمة تدمير التراث الأشوري والكلداني والبابلي في متحف الموصل على يد “التتار الجدد”، لم تفزع ولم تجزع، وهي العالمة بقيمة هذا “الكنز الإنساني” النادر ... جوابها جاء بدوره بارداً جداً ... أن يدمروا التماثيل القديمة خيرٌ من أن يحرّقوا الرجال والنساء الأحياء ... ليُفتح بعد ذلك باب النقاش مع الحاضرين، فيقول الأول، ولكن الأحياء يعوضون أما هذه “النفائس التاريخية، فلا تعوّض ولا تجدد ... ليتدخل ثالث بالقول: كنّا من قبل نحزن ونغضب لسماعنا قصص سرقة الآثار القديمة لحضارات النيل وما بين الرافدين على أيدي المستعمرين الأجانب، وكنّا نستاء لرؤيتها في متاحفهم، أما اليوم، فنتمنى لو أنهم سرقوا كل هذه الآثار، ونقلوها إلى بلدانهم، على الأقل، كنا سنشعر بأنها موجودة وفي مأمن.
جريمة اغتيال الشهيد الطيّار معاذ الكساسبة أقامت الدنيا ولم تقعدها، لفرط بربريتهاووحشيتها ... وكذا الحال بالنسبة لجريمة ذبح المصريين الأقباط على شواطئ ليبيا ... لكن هناك فيض من الجرائم الغادرة التي تقشعر لها الأبدان، والتي لم تترك الأثر نفسه، لأنها ظلت بعيدة عن عدسات الإعلام ولم تر طريقها إلى “اليوتيوب” ... منها جريمة حرق 45 عراقياً وهم أحياء، وجميعهم من أهل السنة والجماعة ... ومنها المصائر المجهولة لمئات النساء الأزيديات .... وآخرها جريمة اختطاف أكثر من 150 أشوري من شمال شرق سوريا إلى مصائر مجهولة .... نحن في زمن انعدمت فيه قدرة الإنسان على التفاعل مع هذه “الغرائب” حتى لكأنها باتت جزءاً من يومياتنا.
أخطر ما في الأمر، أن “القتل اليومي” بات خبراً يومياً، ينزوي في إحدى زوايا الصفحات الداخلية للجرائد، ويرد في شريط الأخبار على الشاشات، من دون ذكره – حتى مجرد ذكر – على ألسنة المذيعين ومقدمات البرامج ... وما لم يكن “المذبوح” أو “المحروق” أو “المقطّعة أوصاله” شخصية عامة، أو من التابعين لجنسية “خمسة نجوم”، فإن الإعلام والصحافة لم يعودا يجدان خبراً يستحق العناية والتغطية والتعليق ... فالفضاء في المنطقة، ملبد بروائح الدم المتخثر واللحم المشوي على نيران داعش، والأشلاء التي تتسلق جدران المنازل والأزقة والحواري التي كانت عامرة ذات يوم، بصيحات الأطفال وحركة المارة وأصوات البائعة الجائلين.
هو الخراب العميم، ورائحة الموت والدم، يحيطان بنا من جهاتنا الأربع ... نستيقظ على مجزرة لننام على أخرى ... والمؤسف في “فيلم الرعب” الذي نعيش فصوله ومشاهده، أنه بلا نهاية مرئية... المؤسف في حالة الانهيار والسقوط التي نعيشها، أنها بلا قعر مرئي، لنقول بأننا سنصل إليه بعد يوم أو شهر أو سنة ... فلا “قعر” و”قرار” لهذا الجرف الذي نهوي إليه ... ولا حدود تمنع تمدده وانتشاره إلى ساحات جديدة وميادين إضافية ... بدأت القصة في ليبيا، ثم انتقلت إلى سوريا، ومنها إلى العراق، وصولاً إلى مصر... أما اليمن الذي كان سعيداً ذات يوم، فيبدو مرشحاً بقوة للانضمام إلى قائمة الموت الجماعي والخراب الشامل، ومأرب التي عرفت السدود قبل الإسلام، ومنها أصل القبائل العربية، تتحول اليوم، إلى “خط تماس” بين المذاهب، وتنتقل شيئاً فشيئاً لتكون حاضنة القاعدة والعشيرة، وملعباً للبترودولار الذي حمل من النقمة أكثر مما حمل من النعمة لمجتمعاتنا وشعوبنا وفضائنا الحضاري والديني والثقافي ... إنها السنوات العجاف التي لا نعرف متى ستتبعها سنوات سمان، بل ولسنا على يقين من أن سنوات سمان سوف يتبعنها.
هو طوفان جارف، يتهدد البشر والشجر والحجر، نقولها بكل ما للكلمات من معانٍ، وليس على سبيل المبالغة أو البلاغة في التوصيف والتشبيه الذي اشتهر به العرب أكثر من غيرهم من الأمم .... هو طوفان يأتي على الماضي والحاضر والمستقبل، على حد سواء، لم تنج منه آثار بابل وأسواق حلب التاريخية ولا غابات جبال العلويين أو نخيل العراق، وأزهق مئات الألوف الأرواح من الرجال والنساء ... هو طوفان يأخذ في طريقه، كل ما استقر في وعينا من ثوابت ومسلمات عن تاريخنا ومعتقداتنا، لكأننا بتنا اليوم، بحاجة لكتابة السطر الأول في كتاب التاريخ.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوميات الطوفان يوميات الطوفان



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 18:22 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج العذراء الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 12:53 2014 الثلاثاء ,25 شباط / فبراير

"Facebook messenger" سيكون متاحًا لويندوز فون بعد أسابيع

GMT 11:08 2016 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

وقف الهدر والتبذير..شعار الكويت الجديد

GMT 16:21 2019 الخميس ,27 حزيران / يونيو

اجتماع تقني يجمع مسؤولي منتخبَي مالي وتونس

GMT 11:21 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

عقدة حياتو والكامرون

GMT 14:25 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

فيلم الرعب "Jigsaw" يحقق 32 ميلون دولار في أسبوع عرضه الأول

GMT 09:26 2017 الخميس ,13 إبريل / نيسان

سوسيج تري كامب السحر الحقيقي للحياة البرية

GMT 20:34 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

"HER" BURBERRY عطر المرأة الجريئة الباحثة عن التميز

GMT 12:54 2019 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

أبسط وأسهل طريقة لاختيار الحجاب الملون بأناقة

GMT 13:37 2012 الخميس ,20 كانون الأول / ديسمبر

كأس ألمانيا: دورتموند وشتوتغارت وبوخوم إلى ربع النهائي

GMT 03:00 2013 الجمعة ,25 تشرين الأول / أكتوبر

ظاهرة "الإرهاب" كلفت تونس 4 مليارات دينار
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia