عريب الرنتاوي
تسعى قطر في تجديد دورها وحضورها في ملفات المنطقة وأزماتها الكبرى كما يلاحظ مراقبون كثر في المنطقة وخارجها ... لكن المهمة القطرية تبدو أكثر صعوبة مما يُظن ويُعتقد... فالإمارة الصغيرة التي لعبت دوراً كبيراً في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة، بدأت تواجه صعوبات جمّة في تجديده واستعادته، بعد أن تقلصت هوامش المناورة المتاحة أمامها، وتبدلت قواعد اللعبة في المنطقة، مع اختلاف مواقع اللاعبين الكبار فيها وتبدّل مواقعهم.
والأصل، أن قطراعتمدت في توسيع وتطوير دورها الإقليمي على جملة أدوات وعوامل ... أما الأدوات فهي: (1) الاقتدار المالي الهائل الموظف في خلق قواعد نفوذ وتأثير لدى النخب الحاكمة في بعض الدول والمعارضات في أخرى، وصولاً إلى النخب الدينية والثقافية في عموم المنطقة العربية، والتي نجحت إما في استمالتها أو “شراء صمتها”، عبر مؤسسات إعلامية وفكرية ودينية فاعلة ونشطة... (2) الاقتدار الإعلامي، معبراً عنه بقناة “الجزيرة” والقنوات الشقيقة المدعومة والممولة من الدوحة، في بيروت وإسطنبول وغيرهما، فضلاً صحف مهاجرة قديمة وجديدة، ومواقع الكترونية، الأمر الذي عُدّ بمثابة “المدفعية الثقيلة” التي تمهد الطريق عادة أمام زحف الجيوش البرية وقوات المشاة، بعد أن تكون قد “دكت” حصون وقلاع الخصم وعناصر قوته ودفاعاته... (3) القاعدتان العسكريتان الكبريان للولايات المتحدة الرابضتان على أرضها، بما تمثلان من “شبكة أمان” وحماية في وجه العاديات، وبوصفهما تعبيراً عن درجة التصاق الإمارة في الإقليم بالدولة الأعظم في العالم.
أما العوامل، فتمثلت أساساً في اثنين رئيسين من بين عوامل أخرى لا مجال لذكرها في هذه العجالة: الأول، ويتمثل في تآكل دور المراكز القومية العربية خلال السنوات والعقود الماضية: مصر – مبارك، رجل العالم العربي المريض، السعودية في طور “بريجينيفي” مديد، العراق الخارج من حرب ليدخل إلى أخرى، ومن حصار مُحكمٍ إلى حصار أشد، وصولاً إلى سوريا التي ستغرق لاحقاً في بحرٍ من دماء أبنائها وبناتها، جراء حربها الداخلية وحروب الآخرين عليها... أما العامل الثاني، فتمثل في صعود نجم جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، في سياق ثورات “الربيع العربي” وانتفاضاته، فكان أن استدلت الدبلوماسية القطرية على “المعادلة السحرية” الكفيلة بتعظيم دور قطر وتوسيعه، بما يفوق بأضعاف حجم الدولة ومقدراتها، معادلة “المال والإعلام القطريين + النفوذ الجماهيري للجماعة = دور إقليمي لا رادّ له).
خلال العام الأخير على وجه الخصوص، تناقصت أهمية أدوات السياسة الخارجية القطرية، وتبدلت العوامل التي ساعدت على امتلاك الإمارة الفرصة للعب دور عجزت عن القيام به، عواصم ومراكز إقليمية ... لم تعد “العديد” ميزة قطرية تنفرد بها قطر، ولم تعد الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تمتلك قواعد في الخليج ... لم تبق “الجزيرة” على ألقها وشعبيتها ونفوذها، وامتلك آخرون أدوات إعلامية وازنة ومؤثرة محلياً وإقليمياً ... لكن المال ظل يفعل فعله في تجديد “الحضور” وإدامته، وإن بات المال القطري يواجه بمال سعودي وإمارتي، دع عنك الإيراني، وهو مال لا يقل غزارة وفاعلية على أية حال.
أما العوامل، وهذا هو الأهم، فقد تغيرت وتبدلت ... مصر نفضت عن نفسها غبار الركود المباركي الطويل، وهي تسعى في استعادة دورها ومكانتها وتحالفاتها، بصرف النظر عن أية مآخذ على الأداء المصري الداخلي أو الخارجي ... السعودية تجاوزت نفسها وإرثها إن على صعيد التغييرات الداخلية أو على صعيد السياسة والأدوار الخارجية، خصوصاً في عهد الملك سلمان بن العزيز بدلالة التغييرات في هرم القيادة داخلياً و”عاصفة الحزم” خارجياً ، والعراق انتقل من حالة الانكشاف إلى مظلة التفاهم الدولي، التي رسمت حدوداً متواضعة لأدوار اللاعبين الإقليميين، صادف أن إيران حظيت بتغطية غربية – أمريكية بخاصة – لدور متميز في بلاد الرافدين... أما دمشق، التي لعبت ذات يوم، بتحالفاتها الممتدة من طهران إلى الضاحية الجنوبية، دوراً معززاً للنفوذ الإقليمي لقطر – زمن دعم الدوحة لمحورها وتحالفاتها –فلم تعد ذاك المركز الذي بمقدور الدوحة أن تتكئ عليه، بعد كل تلك السياسات الاستعدائية التي مارستها ضد نظام الأسد، وجعلت منها”رأس حربة”التحالف العربي – الإقليمي الدولي المعادي له.
أفضى سقوط نظام مرسي في مصر، وتراجع “النهضة” في تونس، وانكماش موجة الصعود الإخواني التي صاحبت ثورات “الربيع العربي”، إلى اختلال معادلة الدوحة السحرية ... فقد المال القطري حليفه الأكبر في الشوارع العربية، بعد أن أصبحت الجماعة مطاردة كجماعة إرهابية في عدد دول المنطقة الكبرى والمؤثرة، أو يُخشى جانبها ويُنظر إليها كتهديد للأمن والاستقرار في دول أخرى... حتى تركيا العدالة والتنمية، الحليف الأكبر المتبقي لقطر، فلم تعد تلك “التجربة الصاعدة” في الإقليم، وهي بالكاد تقوى اليوم أن تدرأ عن أمنها واستقرارها ووحدة دولتها ومجتمعها، تداعيات الأخطاء والخطايا التي قارفها الحزب الحاكم والزعيم الأوحد للبلاد خلال سني الربيع العربي الأخيرة.
تآكلت أدوات السياسة الخارجية القطرية وتبدلت عوامل الانتشار الواسع للنفوذ القطري، تزامناً مع حملة دولية – بعضها مدعوم من دول صديقة لقطر في إطار مجلس التعاون الخليجي – لتركيز الأضواء على “فساد صفقة مونديال 2022”، وملف “العمالة الأجنبية” و”الصلات القطرية” لجماعات إرهابية، إلى غير ما يمكن أن يُعدّ عبئاً على الإمارة الصغيرة، لا ذخراً لها.
عند هذه النقطة بدأنا، بدأنا نتلمس “نبرة جديدة” في الخطاب القطري ... لكأننا بالدوحة تريد أن تعيد رسم صورتها وتعريف دورها... تريد الانتقال من موقع “رأس الحربة” إلى موقع “جسر التواصل” بين الأفرقاء في المنطقة، أو هكذا يبدو من بعيدٍ على الأقل، وهذا دورٌ أقل كلفةً على أية حال... رأينا الدبلوماسية القطرية متحمسة للدفاع عن “اتفاق فيينا” بالضد من التحفظات السعودية عليه، بل وتروج لحوار عربي – إيراني في الوقت الذي تخوض فيه السعودية والإمارات حرباً مباشرة مع النفوذ الإيراني في اليمن، في ظل موقف قطري داعمٍ من بعيد، حتى أن البعض وصفه بالدور “التوريطي” للجارة الكبرى... رأينا الدوحة تتحدث عن استعداد لبذل جهود وساط بين نظام مصر وإخوانها بعد صولات وجولات من الاستعداء الشديد لنظام السيسي، وهو ما رفضته القاهرة جملة وتفصيلاً واعتبرته موقفاً عدائياً يعبر عن استمرار قطر في التدخل في شؤونها الداخلية.
تزامن كل ذلك مع أوسع حملات “العلاقات العامة” دفاعاً عن صورة الدولة المضيقة لمونديال 2022، سواء لجهة تحسين شروط عمل الوافدين الآسيويين بخاصة ... أو لجهة درء اتهامات الفساد في ملفات “الفيفا”.
هل تستمر قطر بتوجهها الجديد هذا، وهل تسعى في استخدام مقدراتها الهائلة للقيام بدور “رجل الإطفاء” بدل اشعال الحرائق أو زيادتها اضطراماً... هل نحن أمام انحناءة تكتيكية أملتها الظروف الجديدة، أم تتويج لمراجعة جوهرية لجوهر المقاربات القطرية كما تجلت في السنوات الماضية؟ ... أسئلة وتساؤلات ما زالت برسم التكهنات والتخمينات لا أكثر.