عريب الرنتاوي
أنهى الجيش اللبناني ظاهرة أحمد الأسير و"مربعه الأمني" الذي سيّج به جامع بلال بن رباح في صيدا .. العملية كانت مكلفة للجيش والمواطنين من أبناء المنطقة .. بيد أنها وفرت لعاصمة الجنوب الفرصة لالتقاط أنفاسها واستعادة حياتها المعتادة، بعد أن عاث الرجل فيها "فتنة" وإفساداً في الأرض .. ليتكشف مسرح العملية عن جملة من الأسرار المروّعة عمّا كان "الأسير" وتابعه "فضل شاكر" يحضرانه لصيدا ولبنان.
الجيش أخمد (ولا نقول استأصل) مشروع فتنة كبرى كانت تعد للبنان، كل لبنان .. أما أدواتها فهو الأسير ومن هم على شاكلته من شيوخ التكفير وفقهاء الظلام .. فكميات السلاح والعبوات المعدّة للتفجير، التي خُزنت تحت المسجد وفي أنفاقه ودهاليزه، تفوق احتياجات "المربع الأمني" للشيخ المضطرب، وتؤسس لمشروع حرب أهلية مديدة، طالما لوّح بها الرجل وهدد بخوض غمارها، مدعوماً بغطاء سياسي من بعض القوى اللبنانية والأجهزة الاستخبارية العربية وشبكات "السلفية" من دعوية وجهادية وغيرها.
ونقول أخمد، لأن الوضع اللبناني ما زال مُحمّلاً بكل بذور الانفجار والتفجير، ومرشحاً لكل المفاجآت على وقع التمايز والاستقطاب المذهبيين، معطوفاً على تفاقم الأزمة السورية وامتداد تداعياتها إلى لبنان .. وثمة بؤر "أسيرية" في لبنان، جاهزة للاشتعال والانفجار، عندما تسنح الفرصة لذلك .. ولبنان لن يبقى على ما تشير كافة الدلائل، ساحة نصرة، وقد يتحول قريباً إلى ساحة جهاد .. سيما بعد أن صدر "أمر العمليات" بضرب حزب الله وإخراجه من مسرح السياسة والحكم، وتجريده من سلاحه.
على أن أسوأ ما في ردّات الفعل اللبنانية على حادثة عبرا / صيدا، تلك التي صدرت عن بعض المسؤولين اللبنانيين، الذي حاولوا بطريقة مؤسفة ومخجلة، وضع حزب الله وسلاحه وأمينه العام في كفّة، وأحمد الأسير وظاهرته وفكره الظلامي / التفتيتي في كفة ثانية .. إنها مقاربة مهينة لعقولنا وللحزب ولمن يقول بها، فمن أين يأتي هؤلاء بمثل هذه "المقايضات"، وكيف أمكن لهم وضع رجل عصابي، شبه مأفون، في منزلة واحدة ن حزب الله ..كيف يمكنهم وضعه سلاح المقاومة وإرثها ومنجزاتها في ميادين الحرب مع إسرائيل، مع سلاح رجل لم يبيّض الله وجهه بإطلاق رصاصة واحدة ضد إسرائيل.
لقد حاولوا عبثاُ الحؤول بين الجيش وأداء مهمته في اجتثاث الظاهرة "الأسيرية" .. لكنهم بعد أن طاشت حساباتهم وانهارت أحلامهم بخلق إمارة إسلامية بمقدورها مناكفة الحزب ومقارعته، عاودوا الكرة من جديد، مطالبين الجيش بدهم كل المربعات الأمنية، في إشارة إلى مربع حزب الله الأمني في الضاحية الجنوبية، ونزع السلاح من أيدي الجميع، في إشارة لسلاح المقاومة، وحل جميع المليشيات في إشارة لقوات حزب الله .. أي أنهم يريدون رأس حسن نصر الله مقابل رأس أحمد الأسير، وسلاح الحزب والمقاومة مقابل سلاح المليشيا المنفلتة من كل عقال.
هم يعرفون أن أحداً لن يلتفت إلى هذه المعادلة أو يأخذها على محمل الجد .. ولكنهم يصرون على ذكرها وترديدها إمعاناً في "شيطنة" الحزب وإنفاذاً لتعليمات شطبه من المعادلة الداخلية والإقليمية التي صدرت عن عواصم خليجية معروفة .. واستكمالاً لمسيرة الإلغاء التي بدأت صبيحة اليوم لحرب تموز 2006، والمنسقة إقليمياً ودولياً، والتي تفاقمت مؤخراً على إيقاع الحرب الدائرة في سوريا وعليها.
ما فات بعض السياسيين اللبنانيين، أنهم بمسعاهم ذاك، لم يخفقوا في الحط من قدر حزب الله فحسب، بل وكانوا يمنحون "الأسير" مكانة لا يستحقها، سيما بعد أن تلطخت يديه بدماء الجنود والضباط اللبنانيين، ويبررون لهم أفعاله النكراء، حتى بعد حاز على لقب "المجرم الفار من وجه العدالة".
لقد حاولوا إقامة تمثال بين دور الأسير في بث الفرقة والانقسام المذهبيين، وخطاب حزب الله المذهبي .. وفي هذا أيضاً، أخفقوا أيما إخفاق، سيما بعد أن انبرت قيادات سياسية ودينية سنيّة وازنة، وفي مقدمها دار الفتوى، بالهجوم على الخطاب الديني المنحرف للأسير، وشجب عدوانه السافر على الجيش، وإشاعته مناخات الفرز والاستقطاب المذهبيين.
لقد مضت "حكاية الأسير" مثلما مضت من قبلها حكاية شبكة اتصالات حزب الله (هل تذكرون)، والأرجح أن "صدمة الأسير" ومربعه الأمني وخطابه المسموم، قد أيقظت الكثير من العقول اللبنانية المسلوبة والمنوَّمة، وربما تكون قد نجحت إلى إعادة الوعي لخطورة اللجوء إلى سلاح الفتنة، لا لأنه ذو حدين فحسب، بل ولأنه يجرح (اقرأ يقتل) من يلجأ إليه أو يستخدمه.
هي جولة ستتبعها جولات من دون شك، ومثلما كانت "معركة القصير" علامة فارقة في تطور الأزمة السورية، فإن "معركة عبرا" ستكون علامة بارزة كذلك في الأزمة اللبنانية .. وكما هي حلب "المعركة الفصل" في الأزمة السورية، فإن طرابلس وجوارها، قد تكون هي "المعركة الفصل" في الأزمة اللبنانية، بعد أن خرج الشارع عن سيطرة السياسة والسياسيين، وتحول إلى مطيّة لأمراء الحرب وأجهزة المخابرات وشيوخ الجماعات السلفية من كل صنف ولون.
نقلا عن موقع القدس للدراسات السياسية