عريب الرنتاوي
لا يمكن النظر للتوترات الطارئة في علاقات المغرب مع كل من مصر والإمارات المتحدة، بمعزل عن وجود حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة والائتلاف الحاكم في المغرب .... مع أنه من الظلم أخلاقياً، وغير المبرر سياسياً، أخذ هذا الحزب بجريرة حركات إسلامية صديقة أو شقيقة في دول عربية أخرى، فالحزب كان رائداً في شق طريق التدرج والتوافق للانتقال للديمقراطية، والحزب كان له إسهام مبكر في فصل السياسي عن الدعوي، والحزب كان سبّاقاً في تبني منظومة عريضة من قيم ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في خطابه السياسي والفكري.
لكن يبدو أن حالة الاستقطاب الحادة، والحملات “المكارثية” ضد جماعة الإخوان المسلمين، وصعود ظاهرة “الإسلام المسلح” وتفشيها في عديد من دول المنطقة، يجعل من الصعب على بعض الأنظمة والحكومات والناطقين باسمها، التمييز بين مدرسة وأخرى، اتجاه وآخر ... فإذا كانت القاعدة اللغوية الدارجة تقول “سكّن تسلم”، فإن القاعدة السياسية التي باتت شائعة هذه الأيام، تفترض وضع جميع حركات الإسلام السياسي ومدارسه في سلة واحدة، والتعامل معها جميعا بوصفها “كرة مصمتة” لا شقوق فيها ولا مسامات.
أذكر مناخات الحذر والتشكيك التي استقبل بها الدكتور سعد الدين العثماني، حين كان أمينا عاماً للحزب قبل أزيد من عشر سنين (مطلع 2003) في عمان على سبيل المثال من قبل الإسلاميين في بلادنا، يومها احتفى العلمانيون الأردنيون والعرب المشاركون في مؤتمر “الأحزاب السياسية في العالم العربي” بأطروحات الرجل الذي سيصبح بعد عشر سنوات وزيراً لخارجية بلاده ... وأذكر وابل الأسئلة “الاستنكارية” وليس “الاستفهامية” التي أمطر بها الرجل حول مرجعية حزبه السياسي.
وحين كنا في تركيا بالأمس القريب (أبريل 2012) بمعية نخبة واسعة من قيادات الصف الأول في عديد الأحزاب السياسية العربية، كان العثماني، ناطقاً باسم حزبه، هو الأكثر إدراكاً لدروس التجربة التركية في حينها، وتحديداً تلك المتصلة بمعالجة “ثنائيات الدين والدولة”، “الإسلام والعلمانية” و”العسكري والمدني” ... يومها انبرى إسلاميو المشرق والجزيرة واليمن، في البحث العابث عمّا هو “إسلامي” في خطاب العدالة والتنمية التركي، إلى أن جاءهم جواب أحد قادة الحزب بأن “كل ما ينفع تركيا هو من صميم الإسلام الصحيح”، قيل ذلك نصاً، أو ترجم بلغة أرقام المديونية والنمو ومعدل دخل الفرد وحجم الاستثمارات الخارجية المباشرة.
وقبل أيام في عمان، وفي مؤتمر “الإسلاميون والحكم ... قراءات في خمس تجارب”، ظن المشاركون الأردنيون أن المتحدث الأول في الجلسة الخاصة بالتجربة المغربية، هو ممثل حزب العدالة والتنمية الذي يترأس الحكومة هناك، لفرط ما أشاد بتجربة الحزب وانفتاحه على بقية الأطياف، وانضباطه لقواعد اللعبة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وحرصه على بناء التحالفات والائتلافات، إلى أن تبين لهم، أن المتحدث هو أحد قادة حزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي المغربي)، وأنه يصدر في حديثه عن خبرة “الوحدة والصراع” مع تيار العدالة والتنمية.
مثل هذه “الشهادات الشخصية”، تدفع كاتب هذه السطور إلى النظر بكثير من القلق إلى حملة التحشيد والاستعداء التي يتعرض لها من قبل أطراف من خارج المغرب، ومن دون إمعان نظر في الفروقات الجوهرية التي تميز هذا الحزب (وحركة النهضة كذلك) عن بقية مكونات الجماعة الإخوانية والجماعات السلفية في بلداننا ... وهذه مقاربة لا تسيء للحزب وحده، بل وتلحق ضرراً بالمغرب الشقيق، وتجربته المتقدمة نسبياً في مضمار الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في ظل نظام ملكي ضاربة جذوره في تاريخ الدولة والمجتمع.
إن “شيطنة” التيار الإسلامي من دون تمييز بين مدارسه وجماعته ليس من السياسة في شيء، بل أن نتائجه كارثية بكل ما للكلمة من معنى، ونحن نراقب بقلق سياسات الإقصاء والتهميش التي تتعرض لها بعض الجماعات من قبل حكوماتها، ونرفض أن يعاد استنساخها في الأردن أو المغرب، فكيف إذا كانت هذه السياسات تصدر عن “أطراف خارجية” وتستهدف بلد شقيقاً، من دون معرفة أو دراية بسياقات تطوره السياسي والاجتماعي والثقافي والتاريخي.
صحيح أن للأزمة بين مصر والمغرب بعداً آخر (الموقف من بوليساريو)، بيد أن الصحيح كذلك، أن هذه الأزمة ما كان لها أن تتفاقم وأن تتحول إلى نوع من التراشق الإعلامي لو أن “العدالة والتنمية” يجلس في مقاعد الأقلية أو المعارضة في البرلمان المغربي، ولولا أن واقعة “حضور وفد مصري إلى تندوف” لم تأت في سياق الصراع المحتدم بين إسلاميين وعلمانيين، عسكر وإخوان، دولة عميقة ومجتمع مدني، إلى آخر ما في الجعبة العربية من ثنائيات.