عريب الرنتاوي
في سعيهم لتفسير ما دار في غزة من معارك عسكرية، وما يدور في القاهرة من معارك سياسية وتفاوضية، انصرفت أنظار المراقبين والمحللين إلى البعد المتصل بأزمة العلاقات بين نظام المشير السيسي وجماعة الإخوان المسلمين (ومن ضمنهم حماس)، فخرجوا بنتائج تحيل الأداء المصري إلى هذا البعد، دون سواه، أو أكثر من غيره.
على أن الصورة تبدو أعقد من ذلك بكثير، ومقدمات ما يجري اليوم، تعود بجذورها إلى العام 2006، عندما اكتسحت حماس الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وشكلت حكومتها لأول مرة، قبل أن تصطدم بفتح والسلطة وأجهزتها الأمنية، وتصل إلى “الانقلاب / الحسم” في حزيران من السنة التالية، ويستمر الانقسام بعدها حتى يومنا هذا، وتستمر معه حماس في إدارة قطاع غزة، منفردة، وبقبضة من حديد.
بالعودة إلى تلك السنة، سنة الانقلاب في النظام السياسي الفلسطيني، وتحوّله من نظام القطب الواحد إلى نظام القطبين ... يومها، بدا انتصار حماس في الانتخابات (ومن ثم الحسم العسكري)، حلقة في سياق إقليمي متغير ... كانت واشنطن تجرجر أذيال الخيبة في العراق، بعد أربع سنوات من احتلال أكل الأخضر واليابس، وترك بلاد الرافدين نهباً لفراغ، نجحت إيران وحلفاؤها في ملئه من دون مصاعب... يومها لم يكن قد انقضى على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري سوى سنة واحدة، ليخوض حزب الله بعد ذلك حرب تموز / آب 2006، ويستتبعه في السنة التالية بـ “الحسم” في بيروت، إثر فتح ملف شبكة اتصالات الحزب ... كان ما يسمى حينه، “محور المقاومة والممانعة”، يشهد مدّاً متعاظماً، بدا معها محور “الاعتدال” العربي، غارقاً في معارك الدفاع عن الدور والنفوذ، وإدراك ما يمكن تداركه.
لم تنج حماس ولا قطاع غزة في تلك الفترة، من تبعات واستهدافات “الهجوم المضاد” لمحور “الاعتدال” العربي ... وهو هجوم حرصت السيدة كوندوليزا رايس والسيد جيمس وولسي، على تنسيقه مع نظرائهم في عواصم “الاعتدال” العربي ... وكان من بين المشاركين في تلك الاجتماعات، والمكلفين بحسم الموقف في قطاع غزة مع حماس، العقيد محمد دحلان، رئيس جهاز الأمن الوقائي، الذي كان موضع رهانات أمريكية وخليجية كبيرة.
بصرف النظر عمّا إذا كانت حماس قد قادت تحركاً “وقائياً” أو “استباقياً” أم أنها كانت تبيت الانقضاض على السلطة في القطاع (اليوم تسرب إسرائيل معلومات عن خطة انقلابية حمساوية على السلطة في الضفة)، فإن النتيجة كانت واحدة ... تم الإجهاز على السلطة ودوائرها وأجهزتها، في زمن قياسي، وخضع القطاع منذ تلك اللحظة لحكم حماس، وحتى مع تشكيل حكومة الوفاق الوطني، يعلن إسماعيل هنيّة، أن حركته غادرت الحكومة ولم تغادر السلطة.
ما يجري اليوم في غزة وحولها، يأتي استكمالاً لمسلسلٍ بدأته الأطراف و”المعسكرات” ذاتها في العام 2006، وهو المسلسل الذي توقف تصوير حلقات جديدة منه، إثر اندلاع ما بات يعرف بثورات “الربيع العربي” حتى أن حماس نجحت في توسيع دائرة علاقاتها العربية والإقليمية والدولية، على بساط “الربيع العربي”، بعد أن أخذت بعض عواصم “الاعتدال” تتقرب منها على أمل أن تكون جسراً للتقريب بينها وبين الأنظمة الجديدة الناشئة، بزعامة إخوانية أو شبه إخوانية، في كل من مصر وتونس مروراً بتركيا وليبيا وصولاً للمغرب وأطراف اليمن.
انقشعت سحابة “الربيع العربي”، وسقط نظام الإخوان في مصر، وانشطر المعتدلون العرب والإقليميون إلى معسكرين اثنين، وضاقت هوامش المناورة أمام حماس، فلا هي عضو موثوق في محور “المقاومة والممانعة” ولا حلفاؤها الكبار في مصر، ظلوا في السلطة، في حين لا يبدو أن تركيا وقطر، قادرتين على وضع حماس على سكة الخروج من أطواق العزلة وشرنقة الحصار.
الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة، تستهدف إنجاز المهمة المعلّقة منذ العام 2006: إحراج حماس وإخراجها، إن لم يكن بالدبابات والطائرات، فعلى موائد التفاوض ... وثمة في القاهرة ما يشي ويشير، إلى أن حصيلة اتفاق التهدئة ومفاوضاته غير المباشرة، والاتفاقات الجانبية، ثنائية ومتعددة، التي ستبرم على هامشه، ستضع نصب عينيها، إعادة القطاع إلى السلطة، وتحجيم حماس إن تعذر سحقها.
في العام 2006 وما بعده حتى سقوط حكم مرسي في مصر، توفرت لحماس هوامش واسعة للمناورة، ولعبت الحركة بأوراق قوة فاعلة ... فهي أجهزت على فتح والسلطة بين عشية وضحاها، ووفر لها “حلف المقاومة والممانعة”، ما لم تكن تحلم به من دعم مالي وسياسي وعسكري وتسليحي وتدريبي وقواعد اسناد ونقاط ارتكاز خلفية وملاذات آمنة، خصوصاً في دمشق وطهران، دع عنك خبرات حزب الله ورصيده المتعاظم في “المقاومة، وما جاءت به “رياح الربيع العربي” لاحقاً من عناصر دعم استراتيجية حاسمة، مكنت الحركة من الاستقواء بعواصم عربية كبيرة ونافذة.
اليوم، تنحسر الأوراق وتضيق مساحات المناورة أمام الحركة، فلا الحركة ستكون قادرة على تجديد وتطوير ترسانتها العسكرية، ولا الدعم الذي كانت تحظى به سيستمر، والمؤكد أن قطر وتركيا، ستفاضلان بين خوض معركة “تثبيت” حماس حتى النهاية من جهة، وحفظ مصالح البلدين ومقتضيات موقعهما ومصالحهما وتحالفاتهما من جهة ثانية ... كل المؤشرات تدفع على الاعتقاد، بأن ما كان “انقلاب دحلان” ينوي تحقيقه في غزة قبل سبع أو ثماني سنوات، سيجري العمل على تمريره اليوم، وتحت ستار التهدئة طويلة الأمد، ورفع الحصار عن غزة وإعادة بنائها، وللمفارقة، فإن الدحلان، يبدو حاضراً في خلفية المشهد الغزي، وبدعم من بعض أركان “الاعتدال” العربي.
على الدوام، توفرت لحماس، مثلما توفرت لفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، فرصة اللجوء إلى “ورقة” الاشتباك” مع الجانب الإسرائيلي، وفتح جبهات واسعة معه، إما لتفادي الضغوط أو الخروج من مأزق أو حصار، أو لإحراج الخصوم ... هذه المرة، الصورة أيضاً تبدو مختلفة: الخصوم لا يحرجون حتى وإن سالت الدماء “حتى الركب” في غزة ... وقدرة الحركة على إحراج المشير السيسي ذي الشعبية في بلاده، والمدعوم إقليمياً ودولياً، أقل بكثير من قدرتها على “ابتزاز” نظام مبارك المتهالك والمعزول ... فيما السؤال المشروع، يتعلق بقدرة القطاع وأهله على تحمل حرب استنزاف طويلة، أو معاودة المواجهات المفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي، سيما وأن المفاوضات في القاهرة، التي يجريها وفد فلسطيني موحد في الظاهر، قد تفضي، وهي أفضت نوعاً ما، إلى بروز تشققات وتصدعات، في وحدة الموقف والوفد الفلسطينيين ... هي لحظة مفصلية وأيام سيكون لها ما بعدها، لا بالنسبة لحماس فحسب، بل وبالنسبة للقضية الفلسطينية ومستقبل كفاح الشعب الفلسطيني في سبيل عودته وحريته واستقلاله.