عريب الرنتاوي
نبدأ بالأكذوبة الأولى وتقول: أن ما جرى في مصر أمس الأول، انقلاب عسكري مكتمل الأركان، على الديمقراطية و"الشرعية" والرئيس والجماعة، يرقى إلى مستوى "الخيانة الوطنية"، مع كل ما تستوجبه هذه القراءة من دعوات لرفض الإجراء ومقاومته ... أما الحقيقة الأولى فتقول: أن ما حصل في الثلاثين من يونيو وما بعده، هو ثورة شعبية بامتياز، ثورة تفوق بامتداداتها الشعبية ومساحاتها الوطنية ثورة الخامس والعشرين من يناير ... ما حصل أن أزيد من ثلاثين مليون مصري خرجوا في واحدة من أضخم التظاهرات الجماهيرية في العالم والتاريخ، ولمدة أربعة أيام متواصلة، دون أن يصل صوتهم إلى "الاتحادية" أو "المقطم" ... بل أن الرئيس وإخوانه مارسوا أبشع حالات الإنكار والتجاهل، مع أن أعداد المتظاهرين المناوئين، تفوق بأضعاف، أعداد من صوت لهم في كل انتخابات واستفتاءات حصلت... ولو أن الرئيس وإخوانه، تصرفوا قبل فوات الأوان، وتقدموا بمبادرتهم الأخيرة، قبل شهر واحد فقط، لما حصل ما حصل، ولكانت الطريق قد قُطعت على "تمرد"، ولما وضع الجيش والشعب في أمام خيارين أحلاهما مُرُّ، ولن يجدوا أنفسهم مكرهين على ترديد عبارة زين العابدين بن علي: الآن فهمتكم".
الخلاصة: أن الشعب هو من علّق الجرس، ومهدّ الطريق، واستدعى قواته المسلحة، والجيش تدخل لدرء الخطر الأكبر بالضرر الأصغر، وفقاً لتعبير شيخ الأزهر ... وكل قراءة خارج هذا السياق، إما نفاق وكذب ... أو جهل وإنكار.
الأكذوبة الثانية: أن ما حصل في مصر خلال الأيام الفائتة، ليس سوى "مؤامرة كونية" وفقاً لأحد قادة الإخوان المسلمين الأردنيين، مردداً أقوال نظرائه وإخوانه في المقطم ورابعة العدوية، قادتها الولايات المتحدة وإسرائيل، ونفّذتها الأدوات الرخيصة والإعلام المأجور ... لاحظوا عبارة "المؤامرة الكونية" وكيف استلها الإخوان من قاموس النظام السوري ... ولاحظوا حديثهم عن الإعلام المأجور، وقارنوا بما يقوله النظام السوري عن "قنوات سفك الدم السوري" ... لكن هذا ليس موضوعنا.
أما الحقيقة الثانية فتقول: أن واشنطن كانت أكثر انحيازاً لمرسي وإخوانه ... وأنها بذلك كانت تترجم حالة القلق التي تنتاب إسرائيل لانتهاء حكم الإخوان المسلمين ... ولمعرفة المزيد عن بواعث القلق الإسرائيلي، لنقرأ معاريف وهآرتس خلال اليومين الفائتين، وكيف عددتا فضائل حكم مرسي، إن لجهة صونه المعاهدة والالتزام بها وعدم المطالبة بتعديلها، وبصورة فاقت مختلف التكهنات ... أو لجهة نشاطه في مقارعة سلفيي سيناء وجهادييها، وهدمه من أنفاق غزة بأكثر مما فعل سلفه مبارك ... أو لجهة دوره في هدنة حماس وتهدئتها مع إسرائيل.
واشنطن تلوّح بوقف المساعدات للجيش المصري، والكونغرس شرع بمراجعة الإجراءات تمهيداً لاتخاذها ... و"السي أن أن" كانت أكثر انحيازاً من "الجزيرة" لمرسي وجماعته وميدان "رابعة العدوية" ... فعلى من يحاول الإخوان تمرير حكاية "المؤامرة الكونية" ... لقد فضحت ردّات فعل واشنطن وتل أبيب عمق التفاهمات الأمريكية – الإخوانية، وأيقظت أسوأ ما في بالنا من خواطر وهواجس.
الأكذوبة الثالثة، التي تأخذ شكل "فزّاعة" هذه المرة، تقول: إما حكم مرسي والإخوان، وإما فالفوضى والخراب وشلالات الدم ... هذا ما صرح به الرئيس للغادريان البريطانية، وهذا ما ردده خطباء "رابعة العدوية" وهذا ما كرره على مسامعنا، الناطقون باسم الرئيس والجماعة، تارة باستدعاء صور من الثمانينات، زمن الموجة الإرهابية التي ضربت مصر، وأخرى باستحضار التجربة الجزائرية ... أما الحقيقة الثالثة فتقول: أن مصر ليست الجزائر، هنا الشعب سبق الجيش إلى الميادين، وبعشرات الملايين، وهناك اختطف الجيش صناديق الاقتراع، من دون تفويض من أحد ... هنا حظي الإخوان بفرصة لحكم مصر، أظهروا بنتيجتها فشلاً ذريعاً كاد أن يهدد وحدة البلاد والعباد، وهناك انقض الجيش على السلطة، قبل أن تستكمل اللجان الانتخابية فرز صناديق الاقتراع ... ثم أن الحركات التي كانت عنفيّة في ثمانينات القرن والفائت، بدت أكثر "هدوءاً" و"سكينةً" بل وتساوقاً مع الجيش والمعارضة والشارع والميادين، حتى من الإخوان أنفسهم ... فمن سيقوم بالعنف إذن، غير جماعة الإخوان، فهل هي سائرة على هذا الطريق؟ ... إن كان الجواب بنعم، فإن الحركة ستكون سادرة في غيّها وعزلتها وانفصالها عن الواقع وإنكارها التام للعالم ولمصر المتغيرة من حولها ... لكننا لا نظن أنها ستفعل، فهي نهضت على "السلمية"، وتكشفت عن "براغماتية" والأهم، أن للحركة الكثير لتخسره إن هي ذهبت بعيداً على هذا الطريق ... ما حصل أفقد الجماعة السلطة، وإن ردت عليه بالعنف، سيفقد الجماعة وجودها، وعندها ستكون صورة شوهاء عن دولة البغدادي الإسلامية أو نصرة الجولاني القاعدية.
هي محاولة ابتزاز وتخويف لا أكثر، حتى وإن ترتب عليها بعض "العنف المحسوب"، وهي سياسة "حافة الهاوية" انتهجتها الجماعة على أمل أن تحول دون انزلاقها إلى هاوية الخروج من علياء الحكم إلى صفوف المعارضة ... لا فوضى في مصر، وإن كان طريقها إلى الديمقراطية، ليس يكون مفروشاً بالورود بالطبع.