عريب الرنتاوي
في الأنباء أن السلطة الفلسطينية ممثلة برئيسها وعددٍ من مساعديه السياسيين والأمنيين، تسعى للتوسط بين المعارضات السورية من جهة، وبين هذه المعارضات والنظام السوري من جهة ثانية، وأن ثمة مبادرة فلسطينية لحل الأزمة السورية، وأن اجتماعات جرت في القاهرة بين الرئيس ووفد من هيئة التنسيق، سبقتها واعقبتها لقاءات واتصالات مع ائتلاف إسطنبول، وأن ثمة “شغل” حقيقي يبذل على هذا الصعيد.
لا أنتظر أن يسألني أحدٌ عن تفاصيل المبادرة الفلسطينية للمصالحة السورية، فأنا لم أهتم في الأصل، بالبحث عنها وقراءة نصها ... أتوقع أن تثير مثل هذه الأخبار، أسئلة من نوع: إن كان لدى القيادة الفلسطينية كل هذا الوقت والطاقة والخبرة في مجال التسويات والوساطات و”فضّ النزاعات”، فلماذا أخفقت في إنجاز المصالحة الفلسطينية ابتداءً، وهل بمقدور فاقد الشيء أن يعطيه، ومن أين لـ “النجار الفلسطيني” كل هذه الجرأة لعرض مهاراته في تصليح أبواب الجيران ونوافذهم، فيما باب بيته الخاص، ما زال “مخلعاً”؟
عمر الانقسام الفلسطيني الداخلي يزيد بثلاث أو أربع سنوات عن عمر الأزمة السورية، والمؤشرات تدفع على الاعتقاد بأن سنوات عجاف أخرى، ستمر قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض من مدخنة مساعي الوساطة بين فتح وحماس ... وثمة ملف نزاع جديد داخل السلطة وبين أركانها (عباس في مواجهة الدحلان وعبد ربه وفياض) لا نعرف متى سينتهي أو كيف سيؤول... بل يمكن القول إن مساعي حل الأزمة السورية سياسياً قد تعطي أكلها قبل أن تبدأ مساعي حل أزمة الانقسام الفلسطيني بإعطاء ثمارها ... فلماذا يهتم الفلسطينيون بالمصالحة السورية، فيما هم أنفسهم بحاج لمن يتوسط فيما بينهم، بعد أن طال الانقسام واستطال، بل وبعد أن نمت مؤسسات وطبقات ومصالح وفئات وشرائح على ضفتي المعادلة الفلسطينية، وبصورة تجعل من “استمرار الجهود لاستعادة المصالحة”، أهم من المصالحة ذاتها، وعملاً مطلوباً بذاته، وسبباً في “تكسّب” فئات ومؤسسات وأفراد، سيجدون أنفسهم بلا عمل ولا أدوار، إن أخذتهم “المصالحة” على حين غرة.
لماذا يتوسط الفلسطينيون بين النظام والمعارضة، ويمتنعون في الوقت ذاته، عن “التوسط” بين بعض الفلسطينيين من جهة وكل من النظام والمعارضة من جهة ثانية، بعد أن انزلقت علاقات بعضهم مع دمشق أو خصومها، إلى أسفل درك، سيما وأن بعض أطراف العمل الفلسطيني تورطت في دهاليز الأزمة السوريةوثناياها، وفي بعدها الأمني والعسكري المباشر، تارة من بوابة النظام ودفاعاً عنه (بعض فصائل التحالف في دمشق)، وأخرى من موقع المعارضة، لا بل من خنادقها ودشمها وتحصيناتها (حماس أو بعض تياراتها على الأقل) ؟!
لماذا لا يجري “التوسط” بين الأطراف الفلسطينية المتورطة في “المستنقع” السوري، أقله لبلورة موقف فلسطيني موحد من الأزمة السورية، يدفع باتجاه الأخذ بخيارٍ من الخيارات التالية: النأي بالنفس، الحياد الإيجابي أو التورط المحسوب، وصولاً إلى التورط الكامل ... أليس من الأجدى استثمار “مهارات” التوسط والوساطة، لتوحيد الموقف الفلسطيني، أقله من الأزمة السورية، بدل صرفها عبثاً في مساعي محسومة النتائج، ندرك وتدرك السلطة، أنها “فوق طاقتها” وخارج قدرتها على التأثير، سيما بعد خرجت الأزمة السورية من “الأقلمة” إلى “التدويل”؟
لا يعني ذلك أننا نعارض أية مساعي لحل الأزمة السورية سلمياً، وتسهيل بناء التوافقات بين الأفرقاء المتحاربين ... كل ما نتمناه هو أن يغلق ملف هذه الأزمة اليوم وليس غداً، وأن يتوقف فوراً ومن دون إبطاء مسلسل التدمير المنهجي المنظم للدولة والمجتمع في سوريا، وتساؤلاتنا في الحقيقة لا تتعلق بوجوب الوساطة بل بهوية الوسيط، وما إذا كان مؤهلاً للقيام بدور كهذا في الأصل، حتى لا نذهب بعيداً ونتساءل عمّا إذا كان مسموحاً له القيام بأي دور على هذا الصعيد؟
يقول المثل الفلسطيني “الفاضي بعمل قاضي” ... يبدو أن حالة الفراغ التي تعيشها الساحة السياسية الفلسطينية في ظل انسداد أفق خيار المفاوضات وتآكل حل الدولتين، وانهيار مساعي المصالحة الداخلية، باتت تملي علينا إعادة انتاج هذه المثل ليصبح “الفاضي بعمل وسيط”، وأي وسيط وفي أية أزمة: إنه الوسيط الفلسطيني الأضعف في الأزمة السورية الأعقد والأصعب ... من يعش رجباً يرى عجباً.