«ليس لدى السلطان مَن يكاتبه» 2

«ليس لدى السلطان مَن يكاتبه» (2)

«ليس لدى السلطان مَن يكاتبه» (2)

 تونس اليوم -

«ليس لدى السلطان مَن يكاتبه» 2

عريب الرنتاوي

إذن اجتمعت لأردوغان كل أسباب “الشعبية” في العالم العربي، رسمياً وشعبياً، نخباً ورأي عام، إلى أن أطل الربيع العربي بثورات وانتفاضاته، وأخذ تركيا بدورها على حين غرة، فمن التحفظ والتردد عن دعم حركة التغيير في ليبيا حفاظاً على مصالح أنقرة مع “العقيد” ونظامه، إلى الارتباك في إدارة الأزمة السورية، إلى الرهان على قيادة العالم العربي من خلال إرساء قواعد تحالف استراتيجي مع جماعة الإخوان المسلمين الصاعدة نحو الحكم والسلطة في بضع دول عربية، ومهما كلف الثمن.
فجأة، ومن دون مقدمات، وتحت ضغط الرغبة الجامعة في التقاط اللحظة التاريخية في المنطقة لقيادتها وتوسيع نفوذ تركيا ودورها الإقليمي وتعظيم شبكة مصالحها، انقلب أردوغان على جملة من المبادئ والمواقف التي حملته إلى “قمة الشعبية” في المنطقة ... إذ بخلاف 2003 في العراق، كان أول من طالب بالعسكرة والتدخل الأطلسي والحسم العسكري في سوريا، ذهب بعيداً في مشواره، حتى بلغ حد المجازفة بتسهيل حركة داعش وغض الطرف عن جرائمها ... وقف بعناد خلف جماعة الإخوان المسلمين، ضارباً عرض الحائط مختلف المكونات في المنطقة، من حركات وأنظمة وحكومات وتيار، لم يترك مناسبة إلا وشن فيها أعنف الهجمات على النظام المصري الجديد، وتحول صراعه مع كل من بشار الأسد والمشير السيسي إلى ما يشبه الصراع الشخصي، وهو أسلوب لطالما التصق بشخص أردوغان وأسلوبه المصاب حتماً بلوثة “الزعامة التاريخية” لشعبه والمنطقة.
أحل “الطلاق” بدل “المصالحة” بين الإسلام والعلمانية، دمّر قلاع العلمانية في الدولة والجيش والقضاء والصحافة، وشرع في أسلمة الدولة والمجتمع على حد سواء ... وبدل المصالحة بين الدين والدولة على قاعدة الفصل بين فضائيهما، وما لله لله وما لقيصر لقيصر، شرع في تبني خطاب مذهبي، وتقديم نفسه كناطق بلسان الإسلام السني، لا في تركيا فحسب، بل وفي المنطقة برمتها، وأخذ على معارضيه أنهم علويون أو شيوعيون، وقاد البلاد إلى حالة من التراجع قل نظيرها عن منظومة الحقوق والحريات التي جاء بها وجاءت به إلى رأس السلطة وعبر صناديق اقتراع نزيهة، دع عنك إسهامه الشخصي في خلق حالة حادة من الفرز والاستقطاب داخل المجتمع التركي المرشح للدخول في صراع “هوياتي” محتدم، قومي ومذهبي وإيديولوجي.
لا شك أن أردوغان حافظ على استقلاليته عن الغرب، بيد أنها استقلالية تستخدم هذه المرة لتحقيق أحلام توسعية، من خلال الدعوة لإعادة النظر في خرائط سايكس بيكو، وليس صدفة أن حكومته وحكومة الخليفة البغدادي، هما الوحيدتان اللتان تقترحان عدم احترام تلك الخرائط وحدودها المصطنعة ... ومثلما قاوم الضغوط للمشاركة في الحرب الكونية على العراق، ها هو يقاوم الضغوط التي يتعرض لها للمشاركة في الحرب الكونية على داعش، لكن شتان بين مقاومتين.
حافظ الرجل على موقف “لفظي” من إسرائيل، فهو ما زال يوجه خطابات نارية ضد إسرائيل، بيد أن علاقات بلاده التجارية مع دولة الاحتلال والاستيطان، في ازدهار مستمر، حيث جاوز ميزانها التجاري الخمسة مليارات دولار، وهي في ثمانية الأشهر الأولى من هذا العام، قفزت بنسبة 25 بالمائة، مع تراجع ملحوظ في علاقات تركيا مع العالم العربي وفي شتى الميادين... ومن حق الجمهور العربي أن يتساءل عن التناقض بين التضامن اللفظي مع قضيته المركزية من جهة وتمتين أواصر العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياحية مع إسرائيل من جهة ثانية ... إنه موقف لا يساعد في بناء “الشعبية”، بل سيفضي حتماً إلى تآكلها.
على خلفية هذه المواقف، المذهبية حيناً والتوسعية أحياناً، الطامحة والمتطلعة للتدخل في القضايا العربية، المستنجدة بالغرب والأطلسي والداعية للعسكرة، الرافضة للحلول السياسية والمبادرات الأممية ... على خلفية تحول القوة الناعمة إلى قوة خشنة تبيح التواطؤ مع داعش والصمت على جرائمها ... بدأ نجم أردوغان بالأفول في العالم العربي، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات التركية وفوزه المتكرر فيها.
فَقَدَ دعم “محور أنظمة الاعتدال” بسبب نزعته التدخلية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وانحيازه الفج لتيار إخواني على حساب بقية التيارات ... فَقَدَ ثقة العلمانيين العرب، الذي استخلصوا درساً إضافياً مفاده أن إرهاصات المدنية والديمقراطية والعلمانية في خطاب الجماعات الإسلامية، ليست سوى حالة ظرفية، تمليها قواعد الاضطرار لا أكثر، وأنهم سينكصون عنها صبيحة اليوم التالي لوصولهم السلطة وتخلصهم من الأنداد والخصوم ... فَقَدَ ثقة القطاعات الكبرى من الرأي العام العربي، الذي تابع تقلبات الموقف التركي والمواقف الاستفزازية للزعيم، وتحول سياسية “صفر مشاكل” إلى “صفر أصدقاء”، واكتشاف تهافت حملات العداء لإسرائيل التي لا تحول دون توطيد شراكات استراتيجية في التجارة والمال والأعمال: التطبيع الاقتصادي.
وإذ راقب الرأي العام العربي، حالة المراوحة في معالجة المسألة الكردية و”صعود المسألة العلوية” في المقابل، والتصدي البشع لمتظاهري “جيزي” و”تقسيم” وتراجع حريات الصحافة والإعلام، والسيطرة على القضاء وسلب استقلاليته، وتكميم أفواه المفكرين والمثقفين وتعميم ثقافة الخوف على حد تعبير التركي الحائز على نوبل للآداب أورهانباموق، فضلاً عن فضائح الفساد التي لامست المقربين منه حزبياً وحكومياً وعائلياً التي حرم القضاء من التحقيق فيها ونشر نتائجها، إلى مظاهر الأبهة وجنون العظمة التي يجسدها “القصر الأبيض”، إلى مواقفه المخجلة من قضية المرأة و”شطحاته قذافيّة الطراز” حول “مسجد كوبا” السابق لوصول كولومبس للعالم الجديد، إلى غير ما هنالك من مظاهر تنتمي للأنظمة التي حكمت المنطقة طوال ثلاثين أو أربعين عاماً... فقد فقدت التجربة التركية تميزها، وأخذ نجم زعيم التجربة وقائدها في الهبوط، و “لم يعد للسلطان من يكاتبه” في هذه المنطقة، سوى جماعة الإخوان المسلمين.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«ليس لدى السلطان مَن يكاتبه» 2 «ليس لدى السلطان مَن يكاتبه» 2



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia