«الدستور» وسؤال شكسبير

«الدستور» وسؤال شكسبير

«الدستور» وسؤال شكسبير

 تونس اليوم -

«الدستور» وسؤال شكسبير

عريب الرنتاوي

في مثل هذه الأيام، قبل عشرين عاماً بالتمام والكمال، دلفت إلى صحيفة الدستور بحثاً عن فرصة للعمل والكتابة ... بدت لي المهمة صعبة للغاية في حينه، فأنا “تعودت” على التعامل مع الصحيفة من موقع القارئ ... لم يخطر ببالي يوماً أنني سأكون فرداً في أسرة الدستور ... علاقتي بالصحيفة بدأت مبكراً، حين كنت طالباً في السنة الأولى، اشتري الصحيفة من “كشك” في شارع الشابسوغ قبل أن “أمتطي الباص” إلى الجامعة الأردنية، وبقيت على هذا الحال طيلة سنيّ الجامعة، قبل أن أبدأ بمتابعة الجريدة حيثما توفرت في بيروت ودمشق عبر شركات التوزيع والسائقين على “الخط”، لم تكن الانترنت قد ظهرت بعد لتقفز بنا من فوق الحدود والمسافات والحواجز والأحكام العرفية.
أمس، كنت من بين نخبة من الزملاء والأصدقاء، نتدارس مع مجلس إدارتها في وضع الجريدة وسبل خروجها من كبوتها المالية ... أظنني شعرت بحنين كبير للجريدة وأنا أبحث عن مكان أركن فيه سيارتي، وكما لم أشعر به أو ينتابني من قبل، ربما لخشية من أن تكون هذه زيارتي الأخيرة لهذا الصرح الكبير، الذي قضيت سنوات عديدة بين جدرانه وعلى مكاتبه في سنيّ عملي الأولى في الصحيفة، قبل أن انتقل لامتهان كتابة العمود اليومي ... كان اللقاء حميمياً، وكنت ترى “التوثب” و”الاستنفار” مرسومين على وجوه الزملاء، وهم يسعون في الإجابة على سؤال: ما العمل؟
لا شك أن الجريدة تمر بوضع صعب، بل وصعب للغاية، لكن إرادة إنقاذ الجريدة تبدو متقدّة عند مختلف الأطراف ذات الصلة: مجلس الإدارة باسم المالكين، وأطقم العمل في الصحيفة والمطبعة والإعلان وغيرها من المرافق، الحكومة ممثلة بشخص رئيسها ووزير الإعلام النشط والصديق للجسم الصحفي، نواب الأمة الذين أظهروا مسؤولية فائقة في معالجة هذا الملف والخروج بتوصيات بالغة الأهمية ... الرأي العام الأردني، الذي يصعب عليه، مثلما يصعب على كاتب هذه السطور، أن يتخيل الأردن من دون هذه الصحيفة الأعرق من بين زميلاتها وشقيقاتها الأخريات.
الدستور بوضعها الراهن، لا تحتمل المزايدات أو المناقصات ... لا بد من إجراءات تنقذ الصحيفة أولاً، وبعدها لكل حادث حديث، إذ حتى قارب النجاة، يصبح قارباً للموت، إن هو حُمّل بأكثر مما يطيق ويتسع، وثمة ظروف تاريخية تضافرت جميعها في زيادة حمولة الجريدة، تماماً مثلما هو الحال في مختلف المؤسسات العمومية في الأردن ... بعضها عائد لأخطاء وخطايا قارفتها إدارات تعاقبت على الجريدة، وبعضها عائد لتدخلات خارجية في سياسات التعيين، لاعتبارات يعرفها القارئ الحصيف، ولا حاجة للتفصيل فيها.
ثمة أفكار ومقترحات تتطاير هنا وهناك، بحثاً عن مخرج من الأزمة ... البعض يقترح أن تتحمل الحكومة و”الخزينة” عبئاً كهذا ... هذا أمر لن يحصل، والقرار بهذا الصدد صدر وانتهى، رغبنا بذلك أم لا، فلا أحد يريد العودة لنظام “الأعطيات” الذي يفتح أبواب جهنم من جديد، لتحرق المال العام والميزانية العامة المثقوبة أصلاً ... الحلول تبدأ من الجريدة نفسها، من ضبط الإنفاق وترشيد الاستهلاك وتعظيم العائدات ... هنا تطرح مسألة الهيكلة وإعادة الهيكلة، بوصفها “أبغض الحلال” و”آخر العلاج”.
الحكومة تعهدت مشكورة بزيادة سعر الإعلان ورفع الحظر عن الاشتراكات وتجميد المطالبات المالية الضريبية والجمركية وغيرها ردحاً من الوقت... هذا أقصى ما يمكن لها أن تفعله، وهو كثيرٌ على أية حال، اللهم إلا إذا أراد بعضنا للحكومة والمال العام، أن يستأنفا دورهما “الرعائي” وسطوتهما على الصحافة ... هذا ليس خياراً، وأهم ما فيه، أن أحداً لن يأخذ به مهما تشاطرنا في حشد المبررات والأسباب الموجبة.
إعادة الهيكلة هي الوسيلة الوحيدة المتبقية لإنقاذ المركب من الغرق ... لكنها وحدها لن تكفي لتوفير العلاج بعيد المدى ... إعادة الهيكلة يجب أن تخضع لمعايير صارمة وعادلة وشفافة، والأهم ألا تفتئت على الحقوق العمالية للعاملين في حالات من هذا النوع، وان تراعي الأولويات والتقييم المهني الصرف والقيمة المضافة للعمالة المتراكمة من دون إسقاط الأبعاد الإنسانية المتعارف عليها ... إعادة الهيكلة يمكن أن تساعد في “تأجيل انفجار الأزمة” ما لم تستتبع بخطوات واستراتيجيات تتناول السياسات التحريرية والإعلانية للجريدة، وتفعيل المرافق الإنتاجية التي طالما رفدت المؤسسة بالمال الوفير ... الجريدة بحاجة لاستراتيجية استنهاض، ينخرط في صياغتها وترجمتها، كل من لديه القدرة على ابتداع الحلول واجتراح المخارج.
الدستور ليست وحدها من يعاني من أزمة بنيوية كبرى ... قبلها كانت صحف يومية تخضع لمسار مماثل ... اليوم تصطف صحف أخرى على الطريق ذاته ... وإن ظل الحال على هذا المنوال، فقد يكون الأردن أو بلد يودع الصحافة الورقية في العالم، وتلكم والعياذ بالله، ثالثة الأثافي، وتحديداً في هذه المرحلة بالذات، التي يعوّل فيها على الصحافة لجبه ما يعترضنا من تحديات ومخاطر، في الداخل والخارج.
ما عرفناه واستمعنا إليه من شروحات حول الوضع المالي للجريدة، ينبغي أن يعلن على الملأ، أقله لمواجهة طوفان الشائعات التي تحيط بالمسألة ... وإذا كانت هناك حلول يتعين اجتراحها خارج إطار الهيكلة، فالأرجح أن البحث عنها، ينبغي أن يكون خارج الجريدة، التي بلغت طريقاً غير نافذ على هذا الصعيد، وهي تواجه اليوم سؤالاً شكسبيرياً: تكون أو لا تكون.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الدستور» وسؤال شكسبير «الدستور» وسؤال شكسبير



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia