بقلم : عريب الرنتاوي
تضع الحكومة المصرية نفسها في موقف حرج للغاية وهي تستأنف قرار المحكمة الإدارية القاضي بـ “مصرية” جزيرتي تيران وصنافير ... ذلك أنها ستضطر إلى “المرافعة” وحشد الأدلة على “سعودية” الجزيرتين، وهو موقف مؤسف، وغير مألوف، وغريب تماماً عن منطق الأشياء، وربما يكون سابقة من أخطر وأغرب ما عرفت المحاكم.
لكنها كانت لتجد نفسها في موقف أشد حرجاً مع حليفتها الكبرى، المملكة العربية السعودية، بعد أن وقعت معها على اتفاق ثنائي (لم يشمل ترسيماً شاملاً للحدود البحرية) تخلت بموجبه القاهرة للرياض عن الجزيرتين، نظير صفقة اقتصادية ومالية، قدرها البعض بحوالي 25 مليار دولار، فضلاً عن مشروع الجسر الاستراتيجي الرابط بين البلدين والقارتين، كما يقول منتقدو الاتفاق ومعارضوه الكثر.
وبين الحَرَجين، اختارت الحكومة المصرية، أقلهما كلفة وتبعات، فقررت خوض المعركة مع القضاء المحلي وفي قاعات المحاكم، بدل خوض المعركة مع المملكة في ساحة التحكيم الدولي وميادين الدبلوماسية، لكن الضرر الذي لحق بالحكومة والرئاسة على حد سواء، قد وقع، وكان بمثابة الصدمة المدوية التي تتردد أصداؤها في طول البلاد وعرضها.
لقد أظهر القضاء المصري، أن ثمة “بقية من أمل” ما زالت تشع من أروقة هيئاته ومحاكمه، بعد الصفعة الكبرى التي تعرض لها، جراء الأحكام القاسية التي أصدرها “بالجملة” ومن ضمنها أحكام بإعدام عشرات الأشخاص (في جلسة واحدة)، طاولت مؤيدي جماعة الإخوان ونظامهم السابق والمتعاطفين معهم ومعارضي النظام من شتى الشرائح والمرجعيات ... اليوم (21 حزيران)، يستعيد القضاء المصري حلتهالبيضاء القشيبة، خالية من لوثة السلطة والسياسة والانحيازات التي لا معنى لها.
وبصدور حكم المحكمة، تكون شهادات البراءة قد صدرت “بالجملة” أيضاً، ضد كل الذين اتهمهم النظام بالتآمر عليه، مستترين بـ “حكاية الجزيرتين”، ويكون القضاء قد قال كلمته، بأن القضية لم تغلق بعد، ولن تغلق، برغم دعوات الرئيس والحكومة بالكف عن تناول الموضوع، باعتباره قضية مبتوت بها، ومن باب تحصيل الحاصل.
لقد انتصرت المحكمة الإدارية مرتين: الأولى حين قبلت الدعوى وردت الطعن بعدم الاختصاص، والثانية، عندما أصدرت حكمها بعيداً عن ضغوط السياسة وابتزاز السياسيين ... فإن لم يكن القضاء معنياً بحفظ سيادة الأمة على إقليمها وترابها الوطني، وعدم السماح بالتخلي عن أية ذرة منه، تحت أي ظرف وبأي شرط، فأي “اختصاص” يتبقى لهذه السلطة، وأين سيشتكي المتضررون من تغول السلطة التنفيذية ومصادرتها لحق المخالفين في التعبير والتظلم والاشتكاء؟
سننتظر لنرى ما الذي تقوله المحكمة الأرفع في قضية الطعن، ونأمل أن يُظهر قضاتها الأرفع مستوى والأكثر خبرة وصدقية، درجة مماثلة على الأقل، من “الاستقلالية” و”المهنية” و”النزاهة” وهم يقلّبون صفحات الحكم البالغة 21 صفحة، ويصدرون قرارهم الأخير بهذا الصدد، فإن تم ذلك، سنرى كيف ستتصرف الحكومة المصرية التي تسرعت تحت ضغط الاحتياجات الآنية الثقيلة، في مقاربة ملف، لم يجرؤ أحدٌ من قبل على التفريط به، ولقد قرأنا واستمعنا لعشرات الخطابات والمقالات والأبحاث، التي تجمع على “مصرية” الجزيرتين، اليوم وبالأمس، وقبل قيام المملكة العربية السعودية في العام 1932.
ونعود فنذكر بتساؤلاتنا التي كنا طرحناها عند توقيع الاتفاق بين البلدين: ما الذي دفع السعودية للمطالبة بالجزيرتين، وفي هذا التوقيت بالذات؟ ... ولماذا تقوم بإحراج حليف لها أمام شعبه، وهو في وضع شديد الصعوبة؟ ... ولماذا أخفقت حكومة السيسي في استشراف ردود أفعال الشارع على خطوة من هذا النوع، وهل بلغ الاستخفاف بالرأي العام، مثل هذا الحد؟
الحكم القضائي بقضية الجزيرتين، يعطي صدقية أكثر لحراك الشارع المصري والنخب المصرية الشبابية والثقافية، التي تصدت لما اعتبرته تفريطاً بالسيادة المصرية عليهما، وهو إذ يأتي في سياق تحركات نشطة يشهدها الشارع المصري، بشبابه وحقوقيه وصحفييه، فإنما يشف عن حقيقة لا يرغب كثيرون في استذكارها، وهي أن “روح يناير” ما زالت حيّة، وأن “مصر التي في خاطري وفي دمي”، لن تسلم قيادتها لأحد، بعد أن نجحت في تفجير ثورتين عظيمتين في أقل من ثلاث سنوات.