عريب الرنتاوي
هبطت المعارضة السورية المُمَثلةِ بالائتلاف الوطني بسقف خطابها وشروطها المسبقة، فهي لم تُبلغ مجلس الأمن بموافقتها الاشتراك في مؤتمر "جنيف 2" فحسب، بل ونحّت جانباً حكاية "تنحي الأسد"، واستبدلت شعارها "المًؤسس" بشعار يتحدث عن "حكومة انتقالية" بصلاحيات تنفيذية كاملة، تتولى قيادة سورية في مرحلة الانتقال.
مثل هذه الاستدارة في مواقف المعارضة، والتي تأتي حتى قبل أن يجف حبر التصريحات الداعية للحسم العسكري والمستدرجة للتدخل الدولي والمرحبة بالضربة العسكرية الأمريكية لسورية، ما كانت لتحدث إلا بفعل تظافر جملة من الأسباب والعوامل محلياً وإقليمياً ودولياً
محلياً، يبدو أن الأرض أخذت تميد من تحت أقدام المعارضة التي تسمى عادة "معتدلة"، بعد تعرضها لسلسلة هجمات نوعية من قبل "مجاهدي الدولة الإسلامية في العراق والشام" و"جبهة النصرة، حيث باتت "السلفية الجهادية" تشكل خطراً وجودياً على "المعارضة المعتدلة" لا يقل جسامةً عن خطر عمليات النظام وجبهاته المفتوحة ضد معارضيه.
إقليمياً، بدا أن صفقة الكيماوي، ومن بعدها "الغزل غير العذري" المتبادل بين طهران وواشنطن، ومن خلف الأخيرة، مختلف عواصم الغرب والشرق، تطرح جانباً خيارات الحسم واحتمالات اللجوء إلى القوة، وترجح كفة الحلول السياسية والدبلوماسية، الأمر الذي ظلت تنكره المعارضة السورية وتتنكر إليه، تماماً مثلما ظلت تفعل في كل مرة، كانت تجابه فيها بالمخاوف من تنامي حجم وتأثير تنظيم القاعدة وتفريعاته: التلبس بـ"حالة الإنكار".
أما دولياً، فقد بات واضحاً أن القاسم المشترك الأعظم بين مختلف العواصم المعنية بالأزمة السورية، على اختلاف مواقعها ومواقفها، إنما يتجلى في العبارة السحرية: لا حل عسكرياً للأزمة السورية، الحل سياسي، وسياسي فقط ... وثمة فائض من المواقف والتصريحات الغربية، العلنية وخلف الأبواب المغلقة، التي كانت تحث المعارضة على الاستعداد للذهاب إلى "جنيف 2" والتفكير بحلول وسط مع النظام.
هو القرار الذي يمليه الاضطرار إذن، وليس الاختيار، فهامش المناورة أمام المعارضة يضيق للغاية، وقرارها الذي لم يكن يوماً ملكها، بات مصادراً بالكاملة من قبل رعاتها الدوليين ومُسلحيها ومموليها الإقليميين ... وما ينطبق على المعارضة، يكاد ينطق على النظام في المقلب الآخر ... فهو أيضاَ بات فاقداً لقدرته على صوغ قراره المستقبل، بعد أن تنامى دور حلفائه في رسم السياسات واتخاذ المواقف، بدلاً منه ونيابة عنه.
على أن هذا "التنازل" الجوهري من طرف المعارضة، لا يعني بحال أن طرق جنيف 2" باتت سالكة وآمنة ... فثمة فائض من الأسئلة والتساؤلات التي ما تزال تنتظر الإجابة: ماذا تعني الحكومة الانتقالية، وإلى متى ستظل انتقالية ... ماذا تعني عبارة "صلاحيات تنفيذية كافية"، هل سيتعين على الأسد ترك قيادة الجيش والأجهزة الأمنية، ولمن سيتنازل عن قيادة هذا الذراع الضارب له وللدولة السورية ... هل يمكن لبلد ذي نظام سياسي رئاسي أن يقبل رئيسه بتقمص دور "ملكة بريطانيا"، وفي لحظة انقسام حادة: سياسياً وجغرافياً ومذهبياً؟
موقف المعارضة السورية نقطة بداية للمفاوضات، ويصعب وضعه في خانة "الشروط المسبوقة"، وأحسب أنها ما كانت لتقدم على خطوة كهذه، لولا رسائل الضغط والطمأنينة التي تلقتها من حلفائها وداعميها الدوليين بالأسس، أما رعاتها الإقليميين، فهم في طريقهم لإعادة تكييف مواقفهم وسياساتهم وفقاً لمقتضيات "التوافق الروسي – الأمريكي" وسقوفه، ومن يعش ير.
نقلا عن القدس للدراسات السياسية