ادفنوا شهداءكم وانهضوا

ادفنوا شهداءكم وانهضوا

ادفنوا شهداءكم وانهضوا

 تونس اليوم -

ادفنوا شهداءكم وانهضوا

بقلم : عريب الرنتاوي

أن ينظر بعض “الإسلامويين” لمسيحيي بلدانهم، نظرة تحقير دونية أو كصنف آخر من البشر من الدرجة الثانية، فذلك أمر ندرجه في سياق منظومة ثقافية لا تعترف أصلاً بمفهوم “المواطنة” وترى إليه بوصفه مفهوماً دخيلاً على الإرث الإسلامي ... وأن يسترسل هؤلاء في “شيطنة” المسيحيين وإخراجهم من دائرة “الرحمة الإلهية”،، فذلك ما ندرجه في سياق “التحريض” والترويج لـ “ثقافة الكراهية” ... وأن يتطور الأمر عند بعضهم لحد استهداف المسيحيين وكنائسهم، بالقتل والحرق، فهذا ما ندرجه في سياق الإرهاب الموصوف، الذي يستحق أعلى درجات العقاب وأشدها.

لكننا نحار تماماً، ولا ندري كيف، أو أين ندرج هؤلاء الذين بلغت بهم كراهية “الآخر في الدين” حد ممارسة “الانتحار” في كنائسهم وجوارها، لقتل أكبر عدد منهم، في يوم عيدهم؟ ... لا ندري أي منظومة فكرية – تعبوية، تقنع شاباً من هؤلاء، بوضع حد لحياته بيديه، وتحويل جسده إلى “قنبلة عنقودية”، تتطاير شظاياها فتقتّل الأطفال والنساء والرجال، وهم في حمأة الاحتفال بالعيد، يرتدون أجمل ملابسهم ويرتلون صلواتهم وأدعيتهم؟

هل سُدّت الطرق الأخرى للجنة، كالعبادة والصلاة والتقوى والورع وقيام الليل وصوم الشهر وحج البيت والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، ولم تعد ثمة من طريق سالكة لجنان الخلد، إلا تلك التي تمر فوق أنقاض الكنائس وأشلاء المسيحيين؟ ... ما الذي دار في خلد هذا “الانتحاري” وهو يرصد ويتحضر ويستعد ويجمع العبوات والمسامير لضمان قتل أكبر عدد ممكن من المصلين والمحتفلين؟ ... ما الذي كان يعتمل في دماغه وهو يتسلل إلى داخل الكنيسة ويسعى في شق الصفوف للوصول إلى أكبر مركز احتشاد لروّادها؟ ... ما الصورة التي تراءت له، وهو يضغط على “زر” التفجير، موقناً أن جسده سيتطاير مزقاً وشظايا بعد أجزاء من الثانية، مزهقاً عشرات الأرواح وتاركاً عشرات العائلات الثكلى وأعداداً لا تحصى من المصابين بأجسادهم وأرواحهم؟

هل ثمة في إرثنا الإسلامي، مصادر على هذا القدر من “الحقد” و”الظلامية” لينهل منها هؤلاء كل ما يسوغ إجرامهم ويبرر أفعالهم السوداء؟ ... إن كان الأمر كذلك، فأين العلماء والمفكرون وأين دورهم في إطفاء هذه البؤر وتجفيف تلك المصادر... أين دورهم وعملهم على انتزاعها من عقول أبنائنا، وتسميتها بأسمائها، كمنابع لثقافة القتل والكراهية والعداء للآخر والقتل المجاني الجماعي، من دون “رتوش” ولا تحسينات بلاغية، لفظية أو معنوية ... وإن كان الأمر كذلك، فلماذا كل هذا التردد في تنقية التراث وتقطيع طرق انتشاره وتمدده، فنحن كلما أكثرنا من الحديث عن محاربة التطرف، كلما صدمنا بأجيال أكثر تطرفاً، وكلما كسبنا معركة على المتطرفين، كلما بدا أننا نخسر الحرب معهم، فكيف الخلاص من هذه الحلقة الشريرة، وكيف يمكن أن ننقذ أنفسنا ومستقبلنا من بطش هؤلاء وإرهابهم ومعاولهم السوداء، التي لا تنفك تقطع أواصرنا وصلاتنا وتدمر نسيجنا، وتضرب في صميم أعماقنا وأرواحنا وضمائرنا وما تبقى من انسانيتنا.

أن يقتل أحدهم أطفالاً في عيدهم، فرحين بثيابهم وألعابهم والحلوى التي تنتظرهم، فهذا سلوك مرضي لا يصدر إلا عن مريض، لا يخضع أبداً لمعايير البشر ولا تنطبق عليه أي من سمات الإنسانية ... لكن أن يجعل أحدهم من جسده قنبلة لقتل هؤلاء وتمزيق أجسادهم الطرية الغضة، فتلكم حالة اعترف بأنني عاجز عن توصيفها، ولا تسعفني اللغة ولا “التحليل النفسي أو السياسي” في تقديم توصيف دقيق لها.

يوم المذابح المتنقلة في كنائس مصر، الذي اختير بعناية شريرة فائقة، في عيد الشعانين، مناسبة لتذكيرنا بما تقاعسنا كسلاً أو تواطؤاً أو جبناً عن القيام به من مهمات في التصدي لهؤلاء ... وهو تذكرة لنا جميعاً، بما حصل في العريش وسيناء قبل أسابيع، وبما يحصل طوال الوقت في مدن سوريا والعراق ضد “الاخر في الدين والطائفة والمذهب” ... هو تذكرة لنا نحن اللاهين في يومياتنا الفارغة من أي معنى، بأن لا مستقبل لهذه المنطقة، ولا امن لها أو استقرار، بوجود هؤلاء، أو من يشبهم أو يشاطرهم في ثقافتهم، أو من يبرر أعمالهم، أو من يدير ظهره ويشيح بنظره عن جرائمهم.

 ... إدانة هذه الجرائم فريضة عين على كل مواطن ومواطنة، في مصر وخارجها، لكنها الإدانة غير المشروطة، التي يتعين أن تكون بداية المشوار لا نهايته، فالطريق لاجتثاث هذا “الطاعون” ما زالت مديدة ومريرة، وسيسقط على جانبيها ألوفٌ مؤلفة من الأبرياء، ومن كل الأديان والطوائف والمذاهب، فهؤلاء لا يستهدفون المسيحيين فحسب، هم كالنار التي سيصلون بها، تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.

فاتنا أن نهنئ مسيحيي بلداننا بالعيد، لكن الجريمة المزدوجة النكراء، تجعل التهنئة واجبة علينا وعلى كل من تبقت لديه ذرة من اخلاق وضمير ... كل عام وأنتم بخير، ولن تمنعنا ثقافة الكراهية السوداء، من أن ندفن شهداءنا وننهض.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ادفنوا شهداءكم وانهضوا ادفنوا شهداءكم وانهضوا



GMT 18:13 2021 الإثنين ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عبدالله بن زايد في دمشق: ما الذي حمله في جعبته؟

GMT 14:13 2021 السبت ,10 إبريل / نيسان

بعد العاصفة، ما العمل؟

GMT 14:38 2021 الخميس ,08 إبريل / نيسان

إيران وإسرائيل و"حرب السفن"

GMT 14:41 2021 الثلاثاء ,06 إبريل / نيسان

مدرستان في التفكير الإسرائيل حيال الأردن

GMT 15:57 2021 السبت ,03 إبريل / نيسان

الانتخابات الفلسطينية (1-2)

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia