بقلم : عريب الرنتاوي
كلمة السر، أو الكلمة المفتاح في القاموس الاتهامي الإسرائيلي الموجه ضد الفلسطينيين هي: «التحريض» ... إن هم نعوا شهداءهم كانوا محرضين ... إن هم شيعوهم في مواكب تليق بهم وبشهادتهم، كانوا محرضين ... إن وقفت العائلات بصدورها أبنائها وبناتها، رجالها ونساء، العارية في وجه الأنياب الفولاذية الحادة لـ «بلدوزر» الاستيطان، كانوا جميعاً محرضين ... إن هم صرخوا من الألم أو الغيط على حواجز الذل والاستبداد، كانوا محرضين ... إن هم قالوا «قضيتنا لنا وطن كما للناس أوطان» كانوا محرضين ... إن اشرأبت أعناقهم للسماء في الدعاء على الطائرات الحربية الحديثة التي تقذفهم بأحدث ما في ترسانة القتل الأمريكية، كانوا محرضين ... إن ردودا بفخر أسماء عائلاتهم، التي تنتسب كثير منها إلى قراهم وبلداتهم الأصلية التي شردوا منها بغير وجه حق كانوا محرضين ... إن قاطعوا السلع التي تنتجها المستوطنات المشيّدة فوق أرضهم وصدورهم وضمائرهم، كانوا محرضين ... كل ما يصدر عن الانسان الفلسطيني الطبيعي، من قول أو فعل أو تقرير، من تعبير عن الغضب والألم والشكوى والحنين والشوق والتطلع، يندرج في إطار التحريض.
البروباغندا الإسرائيلية، «جوبلزية» الطراز، ظلت تكذب وتكذب حتى صدقتها أطراف إقليمية ودولية، فأخذت بدورها تحرض على «التحريض الفلسطيني» وتضعه في سلة واحدة، وعلى قدم المساواة من حيث الخطورة والتهديد، مع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي الذي يأتي يومياً على ما تبقى من أرض الفلسطينيين وحقوقهم ومقدساتهم، ويأكل عاصمة دولتهم العتيدة المنتظرة ... حتى لا يكاد يوجد بيان واحد، بما فيها بيانات المنتظم الدولي، إلا ووضع «التحريض» الفلسطيني، وامتداداً، العنف، في سلة واحدة مع الاستيطان الإسرائيلي، وتلكم بلا أدنى شك، أعلى مراحل الوقاحة وازدواجية المعايير والنفاق المرائي... تقتل إسرائيل أكثر من ثلاثمائة فلسطيني منذ اندلاع «هبّة القدس» حتى اليوم، مقابل ثلاثين إسرائيلياً فقط، ومع ذلك، تنصب النيران وتتركز على «التحريض» الفلسطيني.
ما الذي سيتعين على الأسر المكلومة أن تقوله وتفعله وهي تستقبل جثامين أبنائها وبناتها، الذين يعدمون بدم بارد ورصاص حي في الطرقات وعلى الحواجز؟ ... ما الذي سيتعين على «أجمل الأمهات» أن تقوله وهي تنتظر ابنها وعاد مستشهداً؟ ... هل يتعين على القتيل أن يشكر القاتل، وأن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ .... ما الذي يتعين على أصحاب الأراضي المصادرة أن يفعلوه؟ .... ماذا سيقول عشرات ألوف الشبان والشابات العاطلين عن العمل، المهانين على حواجز الذل والعنصرية؟ ... ما الذي سيقوله المؤمنون وهم يمنعون من الصلاة في مسجدهم أو كنيستهم، أو يرونها تداس بأقدام الغزاة والبرابرة، هل هم محرضون إن هتف أحدهم أو غنى أو تضرع لكي يمحو الله آثار القدم الهمجية؟
في قاموس البروباغندا الإسرائيلية، كل فعل مقاوم هو ثمرة «شيطانية» من ثمار «التحريض» ... كل إيماءة رفض أو تعبير عن الغضب أو إشارة للاستياء والتذمر، هي شكل من أشكال التحريض ... حتى ممارسة الشعائر الدينية في المسجد الأقصى، والعمل عن صونه وحفظ نظافته هي فعل من أفعال التحريض ... الفلسطيني الجيد، غير المتهم بالتحريض، هو الفلسطيني الميت، سواء أكان موته فيزيائياً أم سريرياً أم معنوياً ... هذا هو الفلسطيني الوحيد غير المدرج في قائمة «التحريض» الإسرائيلية السوداء.
في الصراع على «الذاكرة» و»الرواية»، كل استمساك فلسطيني بذاكرة الآباء والأجداد، كل إصرار فلسطيني على تكرار الرواية التي لا يعرف الفلسطيني غيرها، هو ضرب من ضروب التحريض، تحريض ضد «يهودية الدولة»، واستتباعاً ضد عملية السلام و»حل الدولتين»، وربما يفتح ذلك باب الاتهام بالتورط بالإرهاب واللاسامية والتحريض على قتل اليهود.
وإذ تستغل آلة الدعاية الإسرائيلية، «نازية الطراز»، مواقف رعناء وغير مسؤولة تصدر بين الحين والآخر، عن هذا الطرف أو ذاك، فإنها تسعى في تعميمها، وتوسيع مراميها ومعانيها، وتحميل الحركة الوطنية الفلسطينية جميعها، وزرها إلى يوم الدين ... إن لم يكن الرئيس عباس أول المنددين بأي «حادث مروري»، يكون محرضاً، وتنهال عليه الاتهامات والشتائم، ويطوف الموفدون عواصم الغرب والشرق للتشهير ضده ... أما حماس، فكل ما يصدر عنها هو «تحريض» و»إرهاب» بيّن لا لبس فيها، وكذا الحال بالنسبة لبقية الفصائل والجماعات والمؤسسات والأفراد.
لا تتحدث إسرائيل عن أبشع أشكال التحريض التي يمارسه سياسيوها وإعلاميوها وعتاء «رباياتها» و»حاخامتها» ضد الفلسطينيين، ووصفهم بـ «الصراصير» الذين يستحقون الدوس بالأقدام ... لاتأبه إسرائيل، ومن خلفها مجتمع دولي منافق، بالتحريض على قتل الفلسطينيين وتشريدهم وهدم بيوتهم وإعدامهم بلا محاكمات ... الإرهابي الإسرائيلي المدجج بثقافة الكراهية والحقد والعنصرية، يحرق المسجد الأقصى فتشيد له التماثيل، يحرق عائلة بكامل أطفالها وأفرادها، فيصبح بطلاً ... يتلذذ بإهانة الفلسطيني وتحقيره، فيقال أنه يعبر عن وجهة نظره ... يقتل رئيس حكومته لأنه وقع اتفاق سلام، فتنهال عليه طلبات زواج من «داعشيات» إسرائيل،.
بهذا المعنى، الإسرائيلي الخاص جداً، كل الفلسطينيين محرضون ... وبهذا المعنى فقط، لن يكف الفلسطيني داخل وطنه وفي الشتات، عن التحريض، فهو شرف يتسابقون عليه من دون تردد أو إبطاء ... «التحريض» بالمعنى الإسرائيلي المبتذل للكلمة، والذي نجحت أكثر حكومات الاحتلال يمنية وتطرفاً، في ترويجه وتسويقه وتمريره، هي فريضة عين على كل فلسطيني وفلسطينية، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.