بقلم : عريب الرنتاوي
حرب إسرائيل والحركة الصهيونية على الفلسطينيين لا تعرف التوقف، الهدنة في العرف الإسرائيلي المستقر، هي فاصل زمني قصير بين حربين ... هي حرب ليس كمثلها حروب في التاريخين الحديث والقديم ... الاقتصاد عادة محرك الحروب، والتوسع الجغرافي – الامبراطوري محرك آخر ... الأديان والأيديولوجيات والمذاهب، محرك كامن وظاهر لنمط آخر من الحروب ... حرب إسرائيل على الفلسطينيين، هي مزيج من كل هذا وذاك وتلك، بل أنها انفردت بتملكها لدوافع ومحركات غير مألوفة، واقتحامها لميادين وساحات غير معتادة.
مع انتهاء حرب الأيام الستة، لم تسترح إسرائيل في اليوم السابع... امسكت بالجغرافيا الفلسطينية كاملة، وشرعت في تنفيذ عمليات معقدة للتخلص من الديموغرافيا الفلسطينية ... المهمة في شطرها الأول استكملت، أما في شطرها الثاني، فما زالت موضع شد وجذب ... حرب إسرائيل على الثقافة والسرد والذاكرة الفلسطينية بدأت مبكراً، وهي تتوالى فصولاً حتى اليوم، ولن تتوقف في المستقبل.
“يهودية الدولة” هي واحدة من ساحات هذه الحرب، قلنا انها تستهدف الذاكرة والحقوق والرواية الفلسطينية، لتحل محلها رواية إسرائيلية مفبركة، وذاكرة إسرائيلية اصطناعية ... دع عنك ما سيتداعى عنها من تفريط بحقوق سكان البلاد الأصليين، داخل الخط الأخضر وخارجه ... إسرائيل تكاد تكسب “المعركة” حول “يهودية الدولة” وسط تواطؤ دولي وتخاذل عربي وضعف فلسطيني غير مسبوق.
قبل أن تضع معركة “يهودية الدولة” أوزارها، فتحت إسرائيل معركة جديدة في حربها على “الرموز” و”الرمزيات” المؤسسة للرواية والذاكرة والتاريخ الفلسطيني ... هذه المرة، تحول شهداء الشعب وحركته الوطنية الأسيرة إلى هدف “أسمى” لهذه الحرب ... لا شيء سيتحرك أو يتقدم، من دون أن تقدم السلطة على قطع رواتب أسر الشهداء والأسرى ... تردد السلطة في قبول هذا الشرط، دفع إسرائيل لأخذ زمام المسألة بيدها، وقررت اقتطاع قيمة هذه الرواتب من أموال الضرائب التي تجمعها وتسلم ما تيسر منها إلى السلطة.
لن تكتفي إسرائيل بهذا المطلب/ الشرط، غداً ستطلب إلى السلطة تغيير أسماء الشوارع والميادين والمدارس التي تحمل أسماء الشهداء ... وبعد غدٍ سيطلب إلى السلطة أن تدرج في مناهجها الدراسية، فصولاً تشتم هؤلاء وتصفهم بالإرهاب وإعادة تصويرهم كمجرمي حرب، تسببوا بنكبة الشعب الفلسطيني... صور الأبطال يجب أن تنزع عن هؤلاء، لتحل محلها صور القتلة والمجرمين وقطاع الطرق.... أما الأسرى، فيجب ألا تكتفي السلطة بالتنكيل بعائلاتهم وتجويعها ... سيتعين عليها ملاحقة الآباء الذين يحرضون أبناءهم على التظاهر أو لا يمنعونهم عن رشق الحجارة، وسيطلب إلى السلطة تسلم من أكمل محكوميته منهم، لتجري محاكمته من جديد أمام المحاكم الفلسطينية، وليقضي ما تبقى له من عمر، في السجون الفلسطينية ... على الفلسطينيين أن يطاردوا شهداءهم وأسراهم كما طاردت الصين كونفوشيوس زمن الثورة الثقافية لماو تسي تونغ.
جولة أخرى للحرب الإسرائيلية المكارثية على الشعب الفلسطيني، ساحتها هذه المرة، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ... نتنياهو اتخذ من “حكاية” النفق المار قرب مدرسة من مدارس “الأونروا” في غزة ذريعة للمطالبة بحل المنظمة الدولية، وإلحاق مؤسساتها وتفويضها بالمفوضية السامية للاجئين ... لماذا يحظى اللاجئ الفلسطيني بـ “معاملة خاصة”، ولماذا تكون له منظمة دولية خاصة به، ترعى أمور إغاثته وتعليمه وتشغيله؟ ... هناك ملايين اللاجئين والنازحين في العالم، ويتعين على الفلسطينيين أن يكون جزءا من مشكلة اللجوء العالمي، وليس مشكلة خاصة بإسرائيل، وناجمة عن احتلالها وتشريدهم، لماذا الربط بين النكبة واللجوء ... نتنياهو يريد شطب الأمرين معاً.
لا حدود للحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، ولا نهاية لمطالب تل أبيب، كلما قبل الفلسطينيون بشرطٍ، خرجوا عليهم بشرط آخر ... وكلما قدموا تنازلاً طالبهم بالمزيد من التنازلات ... لن ترض إسرائيل إلا بهضم الجغرافيا الفلسطينية كاملة، ومسح الهوية الثقافية والوطنية للشعب الفلسطيني، وإعادة انتاجه كبقايا للقبائل العربية البدوية الغازية، كقوة احتلال همجية، وليس كضحايا لاحتلال ومشروع صهيوني مُدبر، أو كسكان أصليين للبلاد الممتدة من نهر الأردن وحتى البحر المتوسط.
ستظل الذهنية الاستعمارية السوداء تتفتق عن مطالب وشروط مستحيلة، هدفها دفع الفلسطينيين لرفضها وتحميلهم وزر تعطيل مسار سلام زائف ومفاوضات مفرغة من أي مضمون ... المهم أن يتحمل الفلسطينيون وزر “الفرص الضائعة” وحدهم دون سواهم، أو على الأقل الشطر الأكبر منها ... المهم أن تكتسب الرواية الإسرائيلية التي تزعم بأن الفلسطينيين هم “أبطال إضاعة الفرص” بعضاَ من صدقيتها ... وهذا التكتيك نجح إلى حد كبير، إذ حتى بعض الفلسطينيين والعرب المتفذلكين والمتخاذلين، باتوا يرددون هذه “المعزوفة السمجة” ... لم تكن هناك فرصاً في الأصل، ليبددها الفلسطينيون،
وكلما لاحت في الأفق فرصة من هذا النوع، طاردها الفلسطينيون، وسارعت إسرائيل إلى وضع العراقيل على طريقهم والعصي في دواليبها، لتجعل استجابة الفلسطينيين لها، مستحيلة... حرب الإسرائيليين على الفلسطينيين، لا تعرف التوقف ... قبل سنوات كنّا نظن أنها حرب الفلسطينيين المفتوحة على إسرائيل ... اليوم، يتضح أن الصورة معكوسة تماماً، تنازل الفلسطينيين عن أربعة أخماس أرضهم، وعن “حق العودة للديار الأصلية” وعن مفاهيم “السيادة” و”الاستقلال” لم يعد كافياً، المطلوب كتاب اعتذار جماعي، بتوقيع 12 مليون فلسطيني، عن مائة عام من النضال من أجل الحرية والاستقلال، الأفضل أن يكون مشفوعاً باستعداد لتقديم تعويضات، وطلب المساعدة بتمكينهم من العودة إلى مأرب ونجد والحجاز، إلى ما قبل الهجرات العربية التي قذفت بهم إلى أرض “المن والسلوى واللبن والعسل” التي وعد الله بها “شعبه المختار”، قبل ان يُترجم هذا “الوعد الإلهي” بـ “وعد بلفور”.