عريب الرنتاوي
خطا الفاتيكان خطوة كبيرة، عندما برّأ ساحة العالم تشارلز داروين من الكفر والإلحاد، واعترف بنظريته الخاصة بالنشوء والارتقاء كأساس محتمل لتفسير تطور الحياة العضوية ... قبل الكنيسة الكاثوليكية، كانت الكنيسة الإنجليكانية قد اعتذرت للعالم الكبير عمّا بدر عن كهنتها وقساوستها من اتهامات للنظرية وصاحبها بالإلحاد والكفر... الفاتيكان سارع أيضاً إلى الاعتراف بنظرية “الانفجار الكبير” في تفسير نشأة الكون التي أثارت بدورها وتثير، جدلاً واسعاً بالنظر لما تثيره من تساؤلات حول “الرواية الدينية” للخلق والخليقة.
الفاتيكان آثر الابتعاد عن السجال في تفاصيل النظريتين ... فهذا شأن متحرك ومتغير، مكتفياً برفع “التابو” على مناقشة النظريات العلمية والأخذ بها والعمل على تطويرها، بوصفها أساسا علمياً صالحاً لتفسير ظاهرتي الكون والحياة ... والأهم، أنه انصرف عن نهج البابوات والبطاركة الأقدمين، الذين حاولوا فرض “النص الديني” على العقل، حتى أنهم لم يتورعوا عن اتهام كوبرنيكوس وجاليليو بالهرطقة، وإخضاعهما للسجن والإقامة الجبرية، لمجرد أنهما تمردا على نظرية بطليموس – أرسطو، حول مركزية الأرض وجاءا بنظرية مركزية الشمس بدلاً عنها.
نظرية داروين بدورها، وجدت صدّاً قوياً من الكنيسة ... صحيح أن الرجل لم يُكفّر أو يُتهم بالإلحاد كسابقيه من العلماء والفلاسفة، لكن الصحيح كذلك، أن نظريته قوبلت بأبشع حملات التشويه، حتى إن كتابه “أصل الأنواع” تعرض لكل أشكال الحظر والمصادرة والملاحقة، في العديد من الدول الغربية، قبل أزيد من مائة وخمسين عاماً، وظل محظوراً ومصادراً في عديد من دولنا العربية – بالطبع – حتى يومنا هذا.
الكنيسة “ملّت” حكاية المصالحة بين الدين والعلم، وأدركت أن محاولاتها حشر العلم بفضاءاته اللامتناهية في أضيق زوايا وتفسيرات “النصوص الدينية”، ستبوء بالفشل ... فتركت للعلم فضاءاته، ورسمت للدين فضاءه ... هي لم تتخل عن فكرة “الخلق والخالق”، كلي القدرة، بيد أنها تركت البحث في أشكال الحياة وتطورها وصراع البقاء والانتخاب الطبيعي للعلماء، تركت تبدلات شكل المادة وتحولاتها للعلوم الطبيعية، مكتفية إن جاز التعبير، بالتأكيد على وجود “العلّة الأولى”، مصدر الخلق، السابق في وجوده على مختلف أشكال المادة والحياة.
قبل خمسمائة عام تقريباً، كانت محاكم التفتيش، تقتل وتحرق وتُزندق وتكفّر كل من يأتي بنظرية عملية جديدة... لكن دور الكنيسة تغير وتبدل، بعد انفصال الحقل السياسي عن الحقل الديني مع تطور الثورات البرجوازية... وسمح ذلك بتطور العلوم والفلسفات من دون قيود وكوابح ... إلى أن دخلت الكنيسة في طور جديد، انفصل بمقتضاه، فضاء الدين وحقله، عن فضاء العلم وحقوله ... فبات السجال حول نظريات الكون والطبيعة والحياة، متروكاً للعلماء والباحثين والفلاسفة، ليبقي للكنيسة دورها كحارس للقيم والأخلاق والروحانيات.
مثل هذا السجالات، لا نجدها أبداً في مؤسساتنا ومعاهدنا الدينية، ولا نقرأ أو نسمع أي جدل وحوار من هذا النوع ... أذكر حين كنت طالباً في ثانوية حسن البرقاوي، وكان مديرها ناشطاً في حزب التحرير، أنني احضرت معي للمدرسة كتاب داروين: “أصل الأنواع”، واشتققت منه موضوعات لـ “مجلة حائط” كنّا نعدها آنذاك، يومها ثارت ثائرة المدير، وانقض على صفحات المجلة المعلقة على جدران المدرسة، تمزيقاً وتفتيتاً”، متمتاً بكل المعوّذات، مهدداً ومتوعداً بالويل والثبور وعظائم الأمور.
قبل أيام، كان أحد رجال الدين الأجلاء، يفند “علمياً”، على قناة “يوتيوب” حكاية دوران الأرض حول محورها، ودورانها حول الشمس، والمؤكد أن الرجل لم يقتنع بعد، بكرويتها، ولديه من “الأسباب” ما يكفي لتكفير العلماء / الجهلة، الذين حادوا بنظرياتهم، عما يعتقد هو ونظراؤه، أنه كلام الله.
وقبلها بقليل، كنت استمعت لعالم نحرير آخر، يدلي بدلوه في حكاية هبوط الإنسان على القمر، ساخراً مما يزعمون، وبصورة تعيد إلى الأذهان سجالات الكنيسة مع جاليليو وكوبرنيكوس قبل خمسمائة عام، ومن دون أن يتصدى له أحد من العلماء الذين لم تُضرَب عقولهم بداء “ضيق الأفق”.
يبدو أن بعضنا، ما أن يستحوذ على لقب عالم، حتى وإن جاء بمعدل 55 بالتوجيهي، و”نجح على الحفة” في كلية الشريعة، حتى يعطي نفسه الحق، في مقارعة كبار علماء الفيزياء والبيولوجيا والفضاء، بمن فيهم سدنة “ناسا” و”سبوتنيك”، دع عنك آينشتاين وداروين وكوبرنيكوس ... يمنح صكوك الغفران لبعضهم ويحجبها عن بعضهم الآخر ... يقرر – من جانب واحد – ما هو مسموح ببحثه والحديث فيه، وما هو محظور على البشر مجرد التفكير فيه، ودائماً بالاستناد إلى أضيق القراءات وأكثرها سذاجة وسطحية للنص الديني ... لكن مع ذلك فالأرض تدور.