عريب الرنتاوي
ليس الرئيس الفلسطيني محمود عباس في أحسن حال على الإطلاق، ولو كنت ممن يهمسون في أذنه، لطالبته بالتفكير ملياً فيما يحيط به من تحديات وتهديدات، ولاستعجلته إتمام ترتيبات نقل السلطة إلى جيل جديد من القادة الفلسطينيين، والسلطة هنا تتخطى “السلطة الوطنية الفلسطينية” إلى حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ليس ثمة من رضا شعبي عن أداء الرئيس، وثمة قناعة بأن “الهبّة الشعبية” ما كان لها أن تندلع على النحو الذي جاءت عليه، كانتفاضة حجارة وسكاكين، بقيادة “جيل أوسلو”، لولا حالة “فراغ القيادة” التي تعيشها ساحة العمل الوطني الفلسطيني ... الفلسطينيون في حالة “تيه” وقيادتهم لا تساعدهم على تحسس مواطئ أقدامهم ... سنوات من الفراغ تنتظرهم، من المتوقع أن تملأها إسرائيل بالمستوطنات والمستوطنين، فيما العرب منصرفون إلى حروبهم البينية، والمجتمع الدولي مسكون بهواجس وأزمات أخرى.
ثمة قناعة تكاد تغزو المجتمع السياسي الفلسطيني، بأن الرئيس فقد “رهان عمره”، جاء إلى السلطة كحمامة سلام، رفض المقاومة وندد بصواريخها العبثية وتعهد عدم العودة إلى الكفاح المسلح، ولولا بعض من مظاهر “الممانعة” في إرثه الشخصي، لحظر سكاكين المطابخ وأغلق المحاجر والمقالع، فالرجل لم ير خارج المفاوضات طريقاً يمكن أن يقود شعبه إلى الحرية والاستقلال، إلا أنه وبعد عقد من التربع على عرش السلطة، يجد نفسه اليوم، وجهاً لوجه أمام الحقيقة المفجعة: نتنياهو يصفه بالسفّاح، ويتعهد بعدم تسليمه متراً واحداً من المناطق (ج)، والسلطة منقسمة إلى شطرين، ومعها الأرض والشعب والبرنامج وأدوات الكفاح والمؤسسات والمصالح.
مشروعه الذي عهد به إلى رئيس وزرائه الأشهر الدكتور سلام فيّاض، ببناء “مؤسسات الدولة تحت جلد الاحتلال”، كان بالأمس معروضاً للتحليل والتمحيص على مائدة مجلس الوزراء الإسرائيلي، الذي خصص يومين كاملين للبحث في سيناريو انهيار السلطة وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات وارتدادات ... كل ما جرى الرهان عليه والاستثمار فيه، يبدو أنه سيكون عرضة للتبديد والانهيار.
في المقابل، لا يجد الرئيس عباس على الساحتين العربية والدولية، حليفاً موثوقاً أو جداراً صلباً يتكئ عليه ... علاقته بالأردن في أسوأ أحوالها منذ أن تولى دفة الزعامة خلفاً للزعيم الراحل ياسر عرفات ... دولتان خليجيتان صغيرتان وثريتان، تدخلان بقوة على خط التحضير لمرحلة “ما بعد عباس”، ولدى كل واحدة منهما “فرسان رهان وسباق”، وبينهما “ما صنع الحداد”، وفلسطين مرشحة لأن تكون ساحة تنافس وصراع بينهما ... لقد صغرت فلسطين كثيراً في السنوات العشر الأخيرة، حتى أنها باتت مطمعاً للاعبين صغار، لم يكن يخطر ببال أحد، أن تمتد طموحاتهما الإقليمية إلى هذه الحدود، وهي التي لطالما كانت مقارعاً لللاعبين الكبار.
إسرائيل لن تغتال عباس كما فعلت مع عرفات، لكنها في المقابل لن تمنحه ما سيساعده على الوقوف على أقدامه الضعيفة من جديد ... وجود الرئيس عباس المثقل بضعفه وتآكل سلطته، يمكن أن يوفر لها الذريعة لعدم القيام بأية مبادرة أو الاستجابة لأي مشروع، ولطالما قالها وكررها نتنياهو وآخرون: أين الشريك الفلسطيني، مع نتفاوض ... مثل هذا الوضع، يبدو نموذجياً لإسرائيل، لا خشية من تطوير مشروع وطني فلسطيني مقاوم، ولا حاجة ضاغطة للانخراط في مشروع تفاوضي ذي مغزى ... الوقت يعمل لصالح إسرائيل، طالما أن “بلدوزر الاستيطان” يعمل 24 ساعة ومن دون أن يستريح في اليوم السابع.
في بعض عواصم القرار الدولين عدنا نستمع لنغمة “He Couldn’t Deliver”، في إشارة إلى ضيق هذه العواصم بالقضية الفلسطينية أساساً، واستتباعاً بحالة “فراغ القيادة” التي تعيشها الساحة السياسية الفلسطينية، ولولا مواقف بعض الدول الغربية “الصغيرة” المتحررة من ضغوط “اللوبي” و”حسابات الدول العظمى”، لكانت أطواق العزلة قد أحكمت حول القيادة الفلسطينية، وبصورة تذكر بما كان عليه الحال في الأعوام الأخيرة من عهد الرئيس الراحل.
لو كنت ممن يهمسون في أذن الرئيس، لنصحته، بأن يكف عن السفر والتجوال والترحال، وأن يكتفي بإرسال من ينوب عنه عند الضرورة القصوى فقط، ولقضيت 24 ساعة/ 7 أيام في الأسبوع، في ترتيب شؤون البيت الفلسطيني الداخلي ... بدءاً بفتح ومروراً بالسلطة وليس انتهاء بمنظمة التحرير الفلسطينية.
سيدي الرئيس: لم يعد أحد من الفلسطينيين ينتظر منك دولة مستقلة أو عاصمة محررة، أما اللاجئون في الخارج، فلم يبادر أحدٌ منهم لتوضيب أمتعته بانتظار رحلة العودة إلى المنزل والقرية ... دع عنك مطاردة سراب الأوهام، وارسم لنفسك لائحة أولويات جديدة، فما حمّل الله نفساً إلا وسعها... كل ما ينتظره الفلسطينيون منك، فيما تبقى لك من ولاية وعمر مديد، هو ترتيب انتقال سلس وآمن للسلطة والقيادة، وضخ دماء جديدة في عروق الحركة الوطنية الفلسطينية المتيبسة والمنقسمة على نفسها.
سيدي الرئيس: لقد تسلمت الراية على رأس هرم قيادي واحد، قيادة واحدة وحكومة واحدة، وجناجي وطن موحدين، معنوياً ورمزياً على أقل تقدير، فهل ستسلم الراية كما استلمتها؟ ... سيدي الرئيس: لا تترك الساحة الفلسطينية للفراغ، فثمة من يتربص بها، من الأشقاء الأقربين والأعداء الأبعدين، فاعمل على سد الثغرات وإغلاق الشقوق، واقطع الطريق على المتربصين والمتصيدين في الماء الصافي والعكر ... دع الفلسطينيين ينجزون مهمة الانتقال بأنفسهم، قبل أن يجدوا أنفسهم، موزعين على مؤتمرات تحتضنها الدوحة وإسطنبول وأبو ظبي والرياض والقاهرة وربما نواكشط وجيبوتي... انج بالحركة الوطنية الفلسطينية قبل أن تطالها رياح “السورنة” و”العرقنة” و”اللبننة” و”اليمننة” وغيرها من الاشتقاق التي تستعصي على فقهاء اللغة ونحاريرها.