عريب الرنتاوي
يكاد الوضع في مدينة القدس وأكنافها أن يخرج عن السيطرة ... الفلسطينيون الذين هاجموا أهدافاً إسرائيلية بسياراتهم وسكاكين مطابخهم، لم يفعلوا ذلك بقرار «مركزي»، ولم تحركهم فصائلهم أو «جهات خارجية» ... فعلوا ذلك تحت الضغط والقهر والإحساس بلا جدوى المناشدات والمطالبات ... والإسرائيليون الذين يقتحمون الأقصى ويحرقون أو يشنقون شبانا فلسطينيين، لا يفعلون ذلك دائماً، بتوجيه حكومي أحياناً هناك توجيه وهناك قرار، وأحياناً أخرى، يأخذ هؤلاء المتطرفون قراراتهم وحدهم، سيما وأنهم يتوزعون على شاكلة عصابات منظمة، مشبعة بثقافة الكراهية والجشع الاستيطاني التوسعي، وتأتي جرائمهم كنتيجة طبيعية لتفشي التطرف الديني والقومي داخل المجتمع الإسرائيلي.
صحيح أن الإسرائيليين أكثر تنظيماً، بينما أهل القدس متروكون للإهمال والنسيان والفراغ... ما يجعل الحركة في المدينة ومقاومة أهلها، عفوية وغير منظمة في غالب الأحيان ... لكن الصحيح كذلك، أنه حتى في إسرائيل، تكاد «عصابات الهاغاناة والأرغون وشتيرن» في طبعتها الجديدة، أن تتصرف كدول داخل الدولة، وأن تتصرف بما تمليه عليها، أفكارها التوراتية المتطرفة، غير آبهة بقانون ولا مكترثة باتفاقات وتفاهمات يبرمها المستوى السياسي في دولة الاحتلال والاستيطان مع أية جهة كانت.
موضوع القدس والأقصى والمقدسات، واحتدام حالة الاشتباك السياسي بين الأطراف الرئيسة الثلاثة المنخرطة في هذا الصراع (إسرائيل، الأردن والسلطة الفلسطينية)، بات موضع اهتمام مركّز من قبل الأوساط الدبلوماسية الغربية في المنطقة، والمؤكد وفقاً لأفضل معلوماتنا، أن حراكاً كثيفاً يجري في القنوات الخلفية بعيداً عن الأضواء، لا لوقف تدهور الوضع فحسب، بل ولمنع «الانفجار الكبير» والحيلولة دون تحول حالة الانسداد في مسار حل القضية الفلسطينية، إلى أزمة عميقة في العلاقات الأردنية – الإسرائيلية، تهدد سلام الأردن مع إسرائيل ومعاهدة وادي عربة.
لكن المكتوب يُقرأ من عنوانه، فأنت لا تكاد تلتقي بأحد من هؤلاء، وقد ارتسمت على وجهه إمارة تفاؤل في فرص الحل أو التهدئة ... فثمة إجماع على أن لا حل لملفات القدس المتفجرة، من دون حل نهائي لقضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فقضية القدس، هي قضية الاحتلال وتقرير المصير والدولة والعاصمة والعودة إلى غير ما هنالك من عناوين ... لكنه إجماع يائس، أي بمعنى أن الجميع يعرف هذه الحقيقة، والجميع ليس لديه القدرة على التصرف حيالها.
وثمة إجماع آخر، يميل لتحميل إسرائيل المسؤولية عمّا يجري في القدس وحولها، وبالأخص التيارات الأكثر يمينية (قومياً ودينياً) فيها، حيث المفارقة التي يحدثك عنها كل من يلتقيك من هؤلاء، أن نتنياهو، الرمز التاريخي لأقصى اليمين في إسرائيل، بات اليوم في وسط الخريطة السياسية والحزبية هناك ... لكن في المقابل، هناك قناعة لدى هذه الأوساط، بأن ثمة أوساطاً فلسطينية وإقليمية، لها مصلحة، في تصعيد الموقف في المدينة، لأسباب يتعلق بعضها بحرب «تصفية الحسابات» بين فتح وحماس من جهة، وأخرى لها صلة بالصراع الإقليمي المحتدم في مختلف ساحات المنطقة، والذي قد يشق طريقه نحو القدس، كبوابة للإمساك أو على الأقل للتحكم باتجاهات تطور الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
خلاصة القول، أن ثمة أطراف عديدة لها مصلحة في استعادة الهدوء في القدس وحول المقدسات ... في مقدمة هذه الأطراف الأردن والسلطة والمجتمع الدولي الذي سئم من هذا الصراع، ويبدو غارقاً من الرأس حتى أخمص القدمين في حروب ونزاعات أخرى ... لكن في المقابل، هناك من له مصلحة في تصعيد الموقف، ولأسباب تتصل غالباً بالصراع على السلطة فلسطينياً وحروب المحاور والمعسكرات إقليمياً.
أخطر ما في مجريات الوضع في المدينة المقدسة، أنه يتجه لحالة من فقدان القدرة، قدرة كل الأطراف، على السيطرة والتحكم، وقد ينذر باندلاع فصل جديد من فصول الحرب الدينية في المنطقة، والمنطقة كما يعرف القاصي والداني، تجلس على فوهة بركان، و»حروب الهويات» المشتعلة في غير ساحة، تنذر بالإتيان على الأخضر واليابس فيها.