عريب الرنتاوي
بدت كلمات الأمير الحسن بن طلال في "ندائه إلى عقلاء الأمة"، كما لو أنها جاءت من زمن جميل آخر..حين كان في الأمة عقلاء وحكماء..ويوم كان الإفتاء عملاً فكرياً جاداً ومسؤولاً، وليس وظيفة من لا وظيفة له..وحين كان الخطاب العربي الإسلامي، ما زال مُحمّلاً بقيم المواطنة والعيش المشترك وحوار المذاهب و"رسالة عمان" والوحدة القومية والإسلامية..هل تذكرون هذه العبارات، لقد مضى زمن طويل منذ أن تكررت على مسامعنا لآخر مرة، فشكراً للأمير على نداء العقل والقلب والغيرة والمصلحة الجامعة.
لم أك يوماً من الأنصار المتحمسين لـ"حوارات المذاهب والأديان"، ولطالما رأيت فيها قدراً كبيراً من "النفاق" و"التكاذب"..ولطالما رأيت رجال دين يتحولون إلى دبلوماسيين من طراز رفيع وهم يتحدثون عن "الآخر" و"الشريك في الدين أو الوطن"..كل ذلك قبل أن يضطر كثيرون منهم، للتكشير عن أنيابهم والبوح بمكنونات صدورهم، ليتكشفواً عن "طائفيين" ومذهبيين" غلاة ومتطرفين..هؤلاء الذين يتصدرون اليوم جبهة الإفتاء المثير للفتنة والمحرّض عليها، هم أنفسهم الذي طالما أزهقوا أرواحنا ومسامعنا بأحاديثهم المملة عن "العيش والتعايش" و"الوحدة الإسلامية" و"الأمة الواحدة"..لقد طلّقوا عقولهم وأطلقوا العنان لغرائزهم البدائية، واستلوا معاولهم لتفتيت الأمة وتدمير وحدتها وكيانها ونسيجها.
ما الذي تبقى من رسالة عمان، بعد كل هذا التنابذ والإقصاء؟..ما الذي تبقى من "مجالس" و"مجاميع" و"مؤسسات" حوار المذاهب والأديان، التي بتنا نظن انها تحوّلت إلى "موجة" أو "موضة" تتسابق العواصم ويتنافس القادة على تأسيسها ورعاية نشاطاتها والترويج لرسائلها..فجأة كل شيء ينهار، وتنماز الأمة شيعاً وقبائل، وتدخل في "داحس وغبراء" جديدة، نعرف متى بدأت، بيد أننا جميعاً نجهل متى تنتهي وكيف؟.
ما الذي تبقى من مقررات القمم الإسلامية التي طالما حثت على الوحدة ونبذ الفرقة والفتنة، ودعت لجمع شمل الأمة وحشد طاقاتها لمواجهة ما يعترضها من تحديات جسام..أين انتهت مطالباتها بوضع معايير للإفتاء وقواعد للفتوى، حتى لا يختلط حابل الإفتاء بالناس بنابل الإفساد في الأرض.
شكراً للأمير الحسن الذي يذكرنا بأننا أمة واحدة، وأن "إسلامنا" دين تسامح ومحبة وعيش مشترك وإخاء، وليس دين تقطيع الأوصال والأطراف، وأكل القلوب والكبود، واستثارة الأخ على أخيه، والأبن على أبيه..شكراً للأمير لأنه ينتصر للدم البريء المراق في شوارع دمشق وحلب وطرابلس وبغداد وكركوك، لا لشيء إلا لأن صوت الغرائز المذهبية القاتلة، والمصالح الخبيثة والخبيئة، قد طغى على صوت العقلاء والحكماء، ومنهم من دفع روحه ثمناً لرجاحة عقولهم وعمق حكمتهم ونفاذ بصيرتهم.
نداء الأمير الحسن، يصلح أساساً لمبادرة جديدة، تضطلع بها القيادة الأردنية (الهاشمية)، تستكمل بها "رسالة عمان" وتعيد إنتاجها في ضوء ما وقع من تطورات وتحولات..رسالة الأمير وندائه، يذكراننا من جديد، بالموقع "الوَسَط" و"الحَكَم"، الذي بمقدور الهاشميين أن يضطلعوا به في زمن الفرز والاستقطاب والتذابح المذهبي والطائفي..فهم آلُ بيتٍ لشيعة المسلمين وأهل السنة والجماعة منهم، وهم بحكم موقعهم هذا، الأقدر على إطلاق مبادرة عربية – إسلامية، تعيد الاعتبار للعقل والحكمة والمنطق، وتسهم في وقف الانهيارات المتلاحقة في جدار الأمة.
والرسالة / النداء، تصلح أساساً فكرياً / إيديولوجيا، لسياسة أردنية خارجية تقوم على رفض المحاور وتجنب الانخراط في حروب "الإخوة الأعداء" و"النأي بالنفس" عن مشاريع التفتيت المذهبي والطائفي التي ترعاها دول وعواصم مقتدرة ونافذة، والتي انتعشت وانتشرت على هوامش الأزمة السورية، وتعرض الأردن جرائها، لما لا قبل له به من ضغوط، تدفع به إلى هذا الخندق أو ذاك.
نعرف صعوبة المهمة وجسامة التحدي، لكننا إن لم نبادر الآن لإطلاق مبادرات "وقف الانهيارات" و"بناء الجسور"، كتلك التي تضمنها نداء الأمير الحسن، فقد لا يسعفنا "حال الأمة" في قادمات أيامها على تدارك ما يمكن إدراكه...إم لم نملأ الفضاء اليوم بالعقل والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة، سيطغى صوت الجنون والكراهية وثقافة القتل على الهوية والتكفير والتدمير..والوقت من دم.
نقلا عن مركز القدس للدراسات السياسية