مقاربات خارجة عن السياق

مقاربات خارجة عن السياق

مقاربات خارجة عن السياق

 تونس اليوم -

مقاربات خارجة عن السياق

عريب الرنتاوي

الجدل المحتدم في مصر والمنطقة منذ الثلاثين من يونيو، يبدو مزدحماً بـ “النماذج" الدالّة على شغفنا بـ “الإسقاطات التاريخية" والمؤشرة على عمق "النوستالجيا الماضوية" التي تسكن الطبقات السفلى من وعينا و"لا وعينا" ... وسأكتفي في هذه العجالة، بالتوقف أمام "نموذجين" كاشفين لما أنوي قوله: النموذج الأول، يتجلى في مسارعة كثير من الكتاب والمحللين والإعلاميين، إلى عقد المقارنات بين الفريق أول عبد الفتاح السيسي والزعيم الراحل جمال عبد الناصر، حتى أن صور الفريق التي انتشرت بكثافة لافتة في ساحات القاهرة وميادين المدن المصرية، غلب على كثير منها، اقترانها بظلال الزعيم، وثمة فيض من الرسوم الكاريكاتورية التي تصور السيسي ينظر في مرآته، فيرى فيها صورة جمال عبد الناصر. مثل هذه المقاربة والمقارنة، تستند إلى الخلفية العسكرية للرجلين، والشعبية الكاسحة التي نجحا في انتزاعها في زمن قياسي، فضلاً عن صفات مشتركة أخرى يقال إن من بينها: الإحساس العالي بالكرامة الوطنية، وإحساس كل منهما بدوره الشخصي، الإنقاذي / التاريخي، وإيمانه بهذا الدور، واستعداده للمجازفة في سبيل إدامته. مع أن هذه المقاربة/المقارنة، تفتقر إلى سياقها التاريخي، وتبدو خارجه، فعبد الناصر نشأ في مرحلة مبكرة من مراحل "التحرر من الاستعمار" وفي ذروة الحرب الباردة، وصعود المعسكر الاشتراكي وحركات التحرر الوطني العالمية ... فيما السيسي يأتي في سياق آخر مختلف، فهو نفسه، من جيل "آخر الحروب" وعملية السلام والتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وهو نفسه تلقى تدريباته وعلومه العسكرية في الولايات المتحدة، ويقود مؤسسة عسكرية، أعيد بناؤها من جديد، وبعقيدة قتالية جديدة، وسلاح أمريكي حصري (تقريباً) ومساعدة عسكرية قفزت إلى صدارة الجدل الداخلي في مصر، وطفت على سطح العلاقات الأمريكية – المصرية خلال الأسابيع الخمسة الفائتة. هذا لا ينتقص من السيسي، ولا يجعله "عميلاً أمريكياً"، ولا يحول دون قيامه بدور سيكبر أو يصغر في صياغة واقع مصر ومستقبلها، لكن رفع سقف التوقعات بناء على مقارنات ومقاربات "لا تاريخية"، أمر تنقصه الدقة والحكمة، بل وقد تترتب عليه، عواقب وخيمة. وفي التقارير والتسريبات الأمريكية عن "شخصية" الجنرال السيسي، يُقال إن الرجل أكثر انفتاحاً على العالم من عبد الناصر وزعيما مصر من داخل المؤسسة العسكرية اللذان تعاقبا على حكم البلاد من بعده: السادات ومبارك، وأنه شخصياً من المؤمنين بقيم الحرية والديمقراطية، وأنه من المؤمنين بأن "الثكنات" وليس القصور الرئاسية أو الشوارع، هي المكان الطبيعي للجيش ... هذا لم يكن حال "الضباط الأحرار"، مع أن هذه التقييمات، لا تمنع أن تكون للجنرال السيسي طموحاته القيادية/الرئاسية، إن هو خلع البزة العسكرية عشية الانتخابات المقبلة، شريطة "حفظ شرف" صناديق الاقتراع ونزاهة العملية الانتخابية. من الصعب جداً استحضار شخصية جمال عبد الناصر عند الحديث عن السيسي، ومن الأصعب استحضار السياقات التاريخية من سياسة واقتصادية واجتماعية وثقافية، محلية وإقليمية ودولية، شكّلت الرجلين، وكان لها الأثر الحاسم في تطوير شخصيتيهما ... المقارنة مثيرة فعلاً، لكنها مضللة تماماً. النموذج الثاني للنوستالجيا والحنين المرضي للماضي، ذاك الذي يصف وقفة السعودية إلى جانب النظام المصري الجديد ضد حكم الإخوان والدعم الدولي للجماعة، بوقفة الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز إلى جانب مصر وسوريا في حرب أكتوبر عام 1973، حين كان للقرار السعودي (الخليجي استتباعاً)، دوراً مهماً في تعزيز مكانة السادات والأسد على الساحتين الإقليمية والدولية. ينسى أصحاب هذه المقاربة/ المقارنة، اختلاف السياق أيضاً، فالخطوات السعودية / الخليجية في تلك الأزمنة كانت تندرج في سياق "كفاح العرب لاسترداد حقوقهم وتحرير أوطانهم وتقرير مصيرهم" ... الوقفة اليوم تندرج في سياق تعميق "الجرف القاري" الذي يعصف بالمنطقة جراء انقساماتها المذهبية، ويتساوق مع "حروب المذاهب" المندلعة في المنطقة ... إذ في الوقت الذي تستبسل فيه هذه الأطراف في الذود عن مصر ضد التدخلات الأمريكية – الأوروبية الضارّة، نراها تستشرس في استدعاء هذه التدخلات والحث عليها في سوريا، وفي كلتا الحالتين يبدو الهدف واحداً: لجم نفوذ إيران وعزلها والإطاحة بحلفائها و"هلالها" في طول المنطقة وعرضها، والجبهات المفتوحة في هذه الحرب تمتد من اليمن والبحرين ودول الخليج، مروراً بالعراق ومصر وسوريا، ولا تنتهي بضاحية بيروت الجنوبية. شتان بين وقفة تاريخية، نهضت بالأمة في حربها مع عدوها القومي والتاريخي، وما يجري اليوم من تحشيد لأوراق القوة والتحالفات في حروب الطوائف والمذاهب، التي لن يستفيد منها أحدٌ سوى إسرائيل وداعمي توسعها وعدوانيتها. في الظاهر، قد نبدو أمام "مشتركات" عديدة، بين السيسي وعبد الناصر، والسعودية 1973 والسعودية 2013، لكن هذا يحدث في الظاهر فقط، تشابه النبرة وربما النوايا، التصرف باستقلالية عالية (نسبياً) عن الغرب، بل وبالضد من رغباته في بعض الأحيان، والتمرد على "السياق" و"الأوامر" ومعادلة "المركز والأطراف" ... لكن هذا يحدث في الظاهر فقط، أما في الجوهر، فنحن نتحدث عن "تاريخين" و"سياقين" مختلفين تمام الاختلاف، وسيترتب على اختلافهما، تائج ليست من النوع الذي انتظرنه لا بعد صعود عبد الناصر والناصرية في مصر والمنطقة، ولا بعد العبور في أكتوبر وزمن "النفط سلاح بيد العرب". 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مقاربات خارجة عن السياق مقاربات خارجة عن السياق



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:16 2020 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج القوس الخميس29-10-2020

GMT 16:15 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النزاعات والخلافات تسيطر عليك خلال هذا الشهر

GMT 16:45 2019 الخميس ,04 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة عن شهر أيار/مايو 2018:

GMT 17:32 2019 السبت ,30 آذار/ مارس

آمال وحظوظ وآفاق جديدة في الطريق إليك

GMT 18:26 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الميزان الإثنين 2 تشرين الثاني / نوفمبر 2020

GMT 18:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك

GMT 10:44 2013 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

شرش الزلّوع منشط جنسي يغني عن الفياغرا

GMT 14:55 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

يحذرك من ارتكاب الأخطاء فقد تندم عليها فور حصولها

GMT 18:34 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia