مـن أيـن نبـدأ «التـأريــخ»

مـن أيـن نبـدأ «التـأريــخ» ؟!

مـن أيـن نبـدأ «التـأريــخ» ؟!

 تونس اليوم -

مـن أيـن نبـدأ «التـأريــخ»

عريب الرنتاوي

لأن تاريخنا المعاصر، هو تاريخ «الإقصاء المتبادل»، فإننا سرعان ما ننقسم على أنفسنا حين يشرع «أحدنا» بحرب الإلغاء على «الآخر»، مع أن هذا «الآخر» قد يكون دشن جولات سابقة في حروب الإلغاء والإقصاء، المسألة هنا تتعلق بانحيازاتنا واستقطاباتنا ... فالبعثيون في العراق مثلاُ، يؤرخون لأزمته الطاحنة بسقوط بغداد ونظامهم الحاكم، لكأنهم قضوا عقوداً من «العيش المشترك» زمن وجودوهم المنفرد على رأس السلطة، فلا الشيعة ظلموا ولا الأكراد أحرقوا بالكيماوي ولا الشيوعيين تعلقوا على أعواد المشانق ... وخصوم الحوثيين، يؤرخون للأزمة اليمنية منذ أيلول الفائت، لكأن ستة حروب ضد الحوثيين، شُنت عليهم في معاقلهم على رؤوس جبال صعدة، وآخرها بإسناد سعودي مباشر، مجرد فاصل إعلاني قصير، لا يستحق الذكر ... والإخوان يعتبرون الثلاثين من يونيو، خاصة الثالث من يوليو، نهاية التاريخ، الذي لا يجوز أن تكون لها بداية جديدة، إلا باستئناف ما انقطع، لكأنهم قدموا النموذج في العيش المشترك وبناء التوافقات ... وأنصار السيسي، يبدأون العدّ من أول عملية إرهابية تعرضت لها مصر بعد ذلك التاريخ، لكأن ما حصل من إقصاء وملاحقة للإخوان، ليس سوى تفصيلاً هامشياً بائساً ... وكذا الحال في مختلف الدول والمجتمعات العربية.

هي الدوامة المفرغة، التي ندور فيها منذ زمن الاستقلالات الوطنية وحتى اليوم، ما إن دخلت أمة حتى لعنت أختها، وما إن يصل فريق للسلطة حتى يبدأ في إقصاء الآخرين، إن بسحلهم أو تعليق المشانق لهم، في الطريق إلى السلطة، وليس بعد الوصول إليها والاستواء على عرشها... والغريب أن آفة الاستقطاب تمنعنا من رؤية التاريخ بحلقاته المتصلة، وتُعجزنا عن إدراك «العلاقة السببية» بين هذا الفصل وذاك، من الفصول المتعاقبة ... الغريب أننا نحن، في المجتمعات التي لم تضربها بعد، آفة «التدمير المتبادل» أو «الانتحار الجماعي»، نمارس الانحياز والاستقطاب بالدرجة ذاتها من الحدة والشدة كما الشعوب المقتتلة في حروب أهلية، فنبدأ بالتأريخ للأزمات المحيطة بنا، من النقطة التي نشتهى وتخدم مواقفنا المسبقة وانحيازاتنا الإيديولوجية القاطعة.

ولأنها حالة «تدمير ذاتي» أو «انتحار جماعي»، فإن الفريق الواحد، سرعان ما ينقسم على نفسه، ويبدأ حرب الإلغاء والإبادة للخصوم من داخل الدائرة الواحدة، لكأنها النار، تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله ... وانظروا في حروب البعثيين بعضهم مع بعض، داخل كل من العراق وسوريا، وبينهما ... انظروا في تجربة الانتحار الجماعي للحزب الاشتراكي اليمني «مجزرة مدرسة الكادر»، وكيف «أباد» الرفاق بعضهم بعضاَ، برغم مرجعيتهم الماركسية الواحدة ... أنظروا حروب داعش والنصرة، التي تشبه حرب داحس والغبراء ... حرب الجهاديين ضد حماس ... الانقسام المذهبي في المعسكر الإسلامي بين سنة وشيعة ... حرب الإلغاء بين الجنرال ميشيل عون والقوات اللبنانية ... بل انظروا في حرب «الإخوة الأعداء» بين أطراف الجماعة في الأردن، والتي كانت ستتطور إلى ما لا تحمد عقباه، لولا أننا في بلد ممسوك بدولة ومؤسسات وأجهزة وقضاء.

وإن أردتم التعرف أكثر، إلى هول هذه الظاهرة، انظروا في شبكات التواصل الاجتماعي، وكيف تنطلق بعض التعليقات والكتابات من إحساس غرائزي، مجرد من كل ذوق وذائقة، أو عقل ومنطق سليم ... ينضح بأعلى درجات الكراهية والابتذال والاستعداء ... فالانحياز والاستقطاب على طريقة «وهل أنا إلا من غزية إن غزوت، وإن ترشد غزية أرشد»، يبلغ حد الاغتيال والسقوط في مستنقع الشتائم والتعبيرات الناقصة ... لا مكان هنا للرأي والرأي الآخر، لا مكان للتحليل والاجتهاد، أنت إن لم تكن معي مائة بالمائة، فأنت عدوي بدرجة مائة بالمائة، وبك تليق أقذع الصفات والشتائم ... إنه الدرك الأسفل في التفاهة والتهافت والابتذال.

والحقيقة أن من يتتبع لغة التخاطب أو الحوار السائد، يرى انها تقطر عنفاً ... والعنف الجسدي المتوج بإرهاب الجماعات والمنظمات التي نعرف أو لا نعرف، يبدأ أولاً بإرهاب اللغة وعنفها ... وخطاب التكفير والتخوين، يبدأ بالطريقة ذاتها ... ومن يزعم أنه يمتلك الحق المطلق، يتصرف على قاعدة أن «الآخر» على «خطأ مطلق»، من دون أن يُبقي أية «مساحة مشتركة» للتلاقي، فتصبح المعادلة الصفرية، هي المعادلة الحاكمة لعلاقاته بالآخرين، كل ربح يجنيه، يجب أن يكون خسارة صافية للآخر، والعكس صحيح... بالنسبة لهؤلاء، لا مطرح أبداً لمعادلة «رابح – رابح»، والتي من دونها لا مجال لتسويات ولا مطرح لتوافقات وطنية.
تاريخ الإقصاء لا يدوّن من آخر محطاته، أو من إحدى محطاته فحسب، والشعوب التي تريد أن تكتب تاريخها الوطني/ القومي، عليها أن تراعي مختلف الروايات والسرديات، وأن تأخذ بنظر الاعتبار، مختلف المحطات والمنعطفات، وإلا كان تاريخنا كحاضرنا، سبباً إضافياً في تبديد مستقبلنا.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مـن أيـن نبـدأ «التـأريــخ» مـن أيـن نبـدأ «التـأريــخ»



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 14:28 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالعزلة وتحتاج الى من يرفع من معنوياتك

GMT 09:45 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

20 عبارة مثيرة ليصبح زوجكِ مجنونًا بكِ

GMT 16:52 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:26 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 07:09 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:36 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

النشاط والثقة يسيطران عليك خلال هذا الشهر

GMT 17:29 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia