عريب الرنتاوي
ليومين متتالين، تحولت روما إلى “عاصمة الشرق الأوسط” الأكثر حيوية ... وزيرا خارجية روسيا والولايات المتحدة ورئيس الحكومة الإسرائيلية، في اجتماعات ثنائية متعاقبة، أما جدول الأعمال فيشمل فلسطين وسوريا والعراق والحرب على الإرهاب، دع عنك ما يبعث عن هذه الأزمات، وما يؤثر بها من ملفات دولية بالغة الأهمية، وستتبع هذه اللقاءات سلسلة جولات ومشاورات في العواصم الأوروبية الكبرى.
في صدارة هذه الاجتماعات من حيث الأهمية، يأتي لقاء كيري – نتنياهو ولقاء كيري – لافروف، في الأول سيستطلع الوزير الأمريكي من رئيس الوزراء الإسرائيلي عن الحدود التي يمكن لحكومته أن تصل إليها لتقديم بدائل تقنع الجانب الفلسطيني بالعدول عن التوجه إلى مجلس الأمن والمضي في مشروع استكمال عضوية فلسطين في المنظمات والمعاهدات الدولية، وسوف يكون وضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال مجلس الأمن، على رأس جدول أعمال كيري – لافروف كذلك، وإن لم يكن الموضوع الوحيد بالطبع.
هي المرة الاولى منذ سنوات على أقل تقدير، الذي تحتل فيه القضية مكان الصدارة على جداول أعمال اجتماعات طارئة مشابهة، والسبب في ذلك يعود من جهة لحالة الغليان التي تعيشها الضفة الغربية والقدس، بعد أشهر قلائل من الحرب الإسرائيلية الثالثة على قطاع غزة، وللتحرك الدولي الفلسطيني صوب نيويورك، وربما صوب لاهاي في مرحلة لاحقة من جهة ثانية ... مثل هذه التطورات، تنذر باحتمال فتح جبهة جديدة في منطقة تتعدد جبهات القتال والحروب والمواجهة فيها، بين الجميع ضد الجميع.
الهدف الرئيس للتحرك الأمريكي الذي استدعى كل هذه الاجتماعات العاجلة، إنما يكمن في قطع الطريق على مسعى فلسطين لعرض مشروعها المدعوم عربياً على مجلس الأمن ... واشنطن، الملتزمة مصالح إسرائيل “إلى آخر قطرة” لن تسمح بتمرير المشروع، حتى وإن اضطرت لاستخدام الفيتو، لكنها في هذا الظرف الحساس إقليمياً، وحيث تقف وحلفاؤها في ذروة الاشتباك مع “داعش”، تحاول قدر الأمن، تفادي الوصول إلى هذا الخيار، من خلال صيغ ومبادرات دبلوماسية فضفاضة، تكفي لإنزال الرئيس الفلسطيني عن الشجرة، وتساعد في تجديد “الوهم” باستمرار العملية السلمية، من دون أن تكون هناك عملية ذات مغزى أو سلام قائم على استرداد الحقوق الفلسطينية، بدءاً بإزالة الاحتلال الإسرائيلي.
عند هذه النقطة/ المصلحة، الأمريكية (قل الإسرائيلية)، يأتي تحرك الخارجية الفرنسية في مبادرة فضفاضة، لا تلزم إسرائيل بشيء محدد أكثر من “التعايش السلمي”... بل ويقدم لليمين الحاكم في تل أبيب جائزة ترضية تتعلق بـ “يهودية الدولة”، التي رفضها الفلسطينيون وما زالوا يرفضونها، مقابل وعود بمفاوضات “جادة” وتعهدات غير ملزمة بتجميد الاستيطان أو التخفيف من وتائر توسعه ... الرد الفلسطيني على المبادرة الفرنسية، لم يرق لباريس والأرجح أنه لن يروق لنتنياهو وحكومته، واستتباعاً لجون كيري وإدارته.
لكأننا أمام محفل دولي، انعقد على عجل، لتعطيل المسعى الفلسطيني صوب نيويورك، لا أكثر ولا أقل ... فهؤلاء الذين سيطلقون أكثر التصريحات حميمية تجاه الفلسطينيين في روما، هم أنفسهم الذي سيعجزون عن النطق بجملة مفيدة واحدة، ينتظرها الفلسطينيون بفارغ الصبر، منذ عشرات السنين: إنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967 وتمكين الشعب الفلسطيني من بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ومن ضمن جدول زمني معقول، وبترتيبات تتخطى تجميل الاحتلال إلى تحقيق الحرية والاستقلال، لا أكثر ولا أقل.
كل من وصل إلى روما في الساعات القليلة الفائتة من وزراء خارجية هذه الأطراف، يعرف تمام المعرفة أين تكمن المشكلة، وكيف يكون الحل ... كل واحد منهم، يعرف من المسؤول عن التعطيل المستمر لهذا المسار منذ أزيد من عشرين عاماً ... كل منهم يدرك تمام الإدراك حقيقة ما يجري في إسرائيل من تحولات صوب التطرف الديني والقومي ... لكن كل واحد منهم، لديه ألف سبب وسبب، للامتناع عن قول الحقيقة وتسمية الأشياء بأسمائها، والتأشير بإصبع الاتهام للطرف المسؤول عن الفشل والتوتر والتصعيد السائر على طريق الانفجار.
هم يعرفون ونحن نعرف، والقيادة الفلسطينية تعرف كل هذا وذاك وتلك، وعليها وهي تفكر محقة بضرورة خوض غمار السياسة والدبلوماسية، ومراعاة مواقف الأطراف وأولوياتها، أن تتنبه إلى أولويات شعبها وتطلعاته، وأن تتصرف بوحي من هذه المصالح والحقوق الضاغطة، وأن تذهب إلى الخيار الذي لا بد منه في نهاية المطاف، فقد شبع الشعب الفلسطيني من الوعود الزائفة والالتزامات التي لا تُحترم، شبع حد التخمة و”القرف”، وقد آن أوان طرق أبواب جديدة، في مسيرة استنهاض الحركة الوطنية على طريق الحرية والاستقلال، بدءا بطريق زياد أبو عين، وليس انتهاء في لاهاي ... صحيح أن كل الطرق أدت وتؤدي إلى روما أمس واليوم، لكن طريق الفلسطينيين إلى نيويورك ولاهاي، هي الأكثر جدوى وجدية.