عريب الرنتاوي
نعى كثيرون اجتماعات فيينا السورية قبل بدئها ... يبدو أن هؤلاء كانوا يتوقعون لأزمة شائكة ومعقدة، طالت واستطالت، أن تضع أوزارها بمجرد التئام شمل الأطراف الفاعلة على ساحاتها وميادينها ... مع أن مجرد انعقاد الاجتماع، وبهذا النصاب شبه المكتمل، يعد قفزة للأمام على طريق إيجاد حل سياسي لسوريا.
اجتماعات فيينا بداية مسار، وليست حدثاً يقع لمرة واحدة فقط، وينهي بـ “ضربة معلم” مختلف قضايا الخلاف والصراع ... المسار بدأ، وبقوة، وبدرجة “معقولة” من التوافقات حول الأطر العامة للحل، مع أن كثير من الألغام، ما زالت مزروعة في النفوس وفي النصوص، بما فيها نص البيان الختامي لممثلي الدول والمجموعات الـ “17” التي شاركت في الاجتماعات ... أما غياب السوريين فقد كان مفهوماً تماماً لسببين اثنين: الأول، أن ثمة أطراف إقليمية ودولية، ما كان لها أن تباشر مسار الحل السياسي من يومه الأول بحضور ممثلين عن النظام على المائدة ذاتها، فكان تغييب النظام “تكتيكاً احتوائياً” يشبه إلى حد معين اجتماعات الرباعي الروسي- الأمريكي- التركي- السعودي التي سبقت “فيينا 1”، والثاني، ويتعلق بعدم الاتفاق على تشكيلة وفد المعارضات السورية، والذي يحتاج بدوره إلى جولات من البحث المضني عمن يمثلها وكيف وبأية أوزان ونسب.
النقاط التسع التي خرج بها المجتمعون، أو ما بات يعرف بـ “فيينا 1”، تشكل مدخلاً ضرورياً، وإطاراً مناسباً للحل، على الرغم من بقاء الكثير من “العقد الكأدأ أمام منشار التسوية السياسية” .... النقطة الأولى تحدثت عن التزام المشاركين بوحدة سوريا واستقلالها وسيادة أراضيها... هنا يبدو جلياً تراجع فكرة “التقسيم” لصالح فكرة “تقاسم النفوذ” .... أما علمانية الدولة فهي مطلب قطاع واسع من السوريين، ولا ندري لماذا سقطت عبارة “وديمقراطيتها”، مع إنها درجت على لساني كل من لافروف وكيري في الآونة الأخيرة ... يبدو أن “أصولية” بعض المشاركين وانماط حكمهم العائلي المطلق، جعل من الصعب تمرير المسألتين معاً: الديمقراطية والعلمانية، فوردت الأخيرة وسقطت الثانية.
الإبقاء على مؤسسات الدولة السورية، هو التزام آخر يقطعه المشاركون على أنفسهم ... هنا يبدو أن حكاية “إسقاط النظام بكافة مؤسساته ورموزه” قد سقطت بدورها، كما أن فكرة بناء “جيش وطني” على أنقاض الجيش السوري، يبدو أنها بضاعة لم تجد من يشتريها ... الدرسان العراقي والليبي، كانا كافيين لكل ذي بصر وبصيرة.
حماية حقوق السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية، هو التزام “توجيهي” سينفع كثيراً عند الشروع في وضع دستور جديد للبلاد، وهي الفكرة التي طرحتها المعارضة السورية من قبل، وتضمنتها المبادرة الإيرانية ذات النقاط الأربع من بعد، وعادت المقترحات الروسية لاحقاً لتؤكد عليها، الأمر بالغ الأهمية لبلد ثلث سكانه من “المكونات” او “الأقليات” وفقاً للتعبير المذموم في خطابنا السياسي والفكري، مع ان النظام لم يبد يوماً رغبة في قبول هذه الفكرة.
الحرب على الإرهاب، لن تقتصر على داعش، وفقاً لبيان “فيينا 1”، بل وسيشمل جميع المنظمات المصنفة إرهابية وفقاً للأمم المتحدة، بما فيها القاعدة والنصرة أساساً، أما بقية الفصائل الإرهابية، فسيجري بحثٌ في إضافتها إلى اللوائح الأممية السوداء، وفقاً لتصريحات كل من كيري ولافروف وإشاراتهما بعد انتهاء الاجتماعات ... هنا ستجد موسكو ما يسوغ ويسوق استهدافها لجهات أخرى غير “داعش” في حربها على الإرهاب في سوريا، وسيفتح هذا البند، الباب لبحث لاحق حول من هو “الإرهابي” ومن هو “المعتدل” في صفوف الجماعات السورية – وغير السورية – المسلحة، وهي قضية خلافية بامتياز.
البند السابع هو أهم بنود “فيينا 1” على الإطلاق، ولأنه كذلك، فقد جرت قراءته بصور شتى من قبل السياسيين والإعلاميين في المعسكرات المتناحرة في المنطقة ... هذا البند “يشير إلى جنيف 1” وإلى قرار مجلس الأمن رقم 2118، من دون توسع أو اقتباسات، ويتحدث عن مسؤولية النظام والمعارضة بتدشين عملية سياسية تنتهي إلى تشكيل “حكومة”، وصفها بالحكومة القادرة والفاعلة والشاملة وغير الطائفية ... إيران وروسيا ستصفانها بحكومة “الوحدة الوطنية”، وتركيا والسعودية وقطر ستصفها بـ”السلطة الانتقالية”، هنا تبدو العبارات مفخخة ومثيرة للخلاف.
البند ذاته، تحدث عن “دستور جديد” للبلاد، وفكرة الدستور كما قلنا سبق وأن كانت موضع قبول وتداول، حتى من أصدقاء النظام السوري في موسكو وطهران ... يتضح بنتيجته شكل النظام السياسي الجديد وهويته: رئاسي، برلماني، مختلط، حدود الصلاحيات والمسؤوليات ... بعد إقرار الدستور، ستجري انتخابات عامة حرة ونزيهة وذات صدقية، بإشراف الأمم المتحدة... البيان لم يفصل أيهما اولاً: الانتخابات النيابية أم الرئاسية، يبدو أن “الدستور الجديد” هو من سيقرر الأمر، في ضوء طبيعة النظام السياسي الجديد لسوريا... هذه النقطة، ستثير حفظية النظام في دمشق، والمؤكد أن حكاية الرقابة والإشراف الدوليين، لا تروق لحلفائه كذلك، ولكنه تنازل يقدم نظير تنازلات متحصلة من الفريق الآخر... كما أن مشاركة اللاجئين السوريين، أو سوريي الخارج، هي أمر سيجد النظام صعوبة في ابتلاعه، خصوصاً بالنسبة للاجئين في مخيمات الجوار على أقل تقدير.
النقطة الثامنة، تتحدث عن “قيادة” الشعب السوري لهذه العملية وقراره الحاسم بشأنها ... هنا يمكن أن تستخدم هذه المادة لتسويق الموقف الروسي – الإيراني القائل، بأن من حق الشعب السوري وحده أن يقرر من سيقوده في المرحلة المقبلة، في معرض تبرير الفريقين لدعم ترشيح الأسد لولاية جديدة ... ويمكن النظر إلى هذه المادة من باب “تحصيل الحاصل” الذي لا يقدم ولا يؤخر
في البيان حديث عن المساعدات الإنسانية ووقف النار وتكليف الأمم المتحدة بتحديد موعده وآلياته، ما سيلقي على كال الموفد الأممي ستيفان ديمستورا، مهام جسيمة ستعوض عليه فترة البطالة المديدة التي عاشها في موقعه.
خلاصة القول، أن بيان “فيينا 1” رسم ملامح خريطة طريق، ووفر مرجعية جديدة للحل، وإعاد ترتيب بنود “جنيف 1” تقديماً وتأخيراً، وأدخل إيران في العملية السياسية، وألقى على كاهل واشنطن بأعباء التوسط لبلورة تفاهمات أوسع حول القضايا الخلافية، أنهى منظومة “أصدقاء سوريا” وجاء بـ “مجموعة اتصال دولية” حولها،حتى وإن لم تسم بذلك رسمياً، أسس لعملية وآليات عمل، يمكن البناء عليها للمضي في مشوار البحث المديد والمرير عن حل سياسي للأزمة السورية.
لكن “فيينا 1”، لا يعني أن حروب سوريا المتنقلة ستضع أوزارها قريباً، فثمة قوى مؤثرة جداً ستظل خارج هذه العملية: “داعش” و”النصرة” وغيرهما ... والقضايا العالقة التي لم يأت البيان على ذكرها، كمستقبل الأسد ودوره، ستحتاج ربما لمعارك وحروب لبلورة تفاهمات بشأنها، والخاسرون في “فيينا 1” أو الذين لم يجدوا مكاناً لأطروحاتهم عالية السقوف، ما زالوا يتوفرون على الكثير من الأوراق التي سيعمدون إلى استثمارها، سواء بحشد المزيد من القوات وتوجيه المزيد من الضربات، أو من خلال التسليح والتدريب والتمويل الذي سيتكاثر إلى حين قبل أن يبدأ بالتناقص.