عريب الرنتاوي
لم تضع الحرب الإسرائيلية الثالثة على غزة أوزارها بعد، حتى نشرع باستناط الدروس واستخلاص العبر ... لكن وقائع الأسابيع الخمسة الفائتة، تسمح بالتوقف عند بعضها، وليس جميعها:
أول هذه الدروس وأهمها، أن “المقاومة” بمختلف أشكالها، بما فيها المسلحة، ليست فعلاً عبثياً على الإطلاق، وليتذكر الجميع، أنه ما كان لأبرع المفاوضين أن ينتزع تنازلاً إسرائيلياً واحداً، لولا صمود الشعب وثبات المقاومة في غزة ... غزة اليوم محررة، صحيح أن إسرائيل خرجت منها بانسحاب أحادي الجانب في العام 2005، لكنها منذ اللحظة التي فقدت فيها القدرة على العودة لها، دون المقامرة بدفع تكاليف باهظة، باتت محررة.
ثاني هذه الدروس، الذي لا يقل أهمية، ويتلخص في وحدة الموقف الفلسطيني، هذه المرة تختلف عن المرتين السابقتين (2008 و2012) ولولا وحدة الوفد (وفد الجميع الفلسطيني) ووحدة الموقف، لكان بالإمكان اللعب على التناقضات والنزاعات، ولأمكن التفرد بفريق لإضعاف فريق آخر، ودائما من “كيس” الشعب الفلسطيني وعلى حسابه، لكن صورة الوفد، بممثلي مختلف الفصائل الرئيسة، كانت وحدها تبعث الأمل في النفوس، وتعزز الثقة بإمكانية تحقيق النصر، أو أقله، قطع الطريق على مرامي العدوان الإسرائيلي وأهدافه ... وحدة الموقف والوفد، صمود أهل غزة ومقاومتها، أيقظا الروح الوطنية الفلسطينية في الوطن المحتل والشتات، ووحدا الشعب الفلسطيني، كما لم يحدث منذ سنوات طوال وعجاف.
ثالث هذه الدروس، أن المفاوضات خيار ساقط، ما لم تكن مدعومة بكل عناصر القوة والاقتدار، ما لم تكن مسنودة بمقاومة لا تلين لها قناة، وبكل أشكال المقاومة، فعدو الشعب الفلسطيني لا يعرف إلا لغة القوة، وهو لم يظهر أي استعداد للتفاوض الجدي، إلا بعدما أدرك، بأن المقاومة، هي بديل التلكؤ والمماطلة والتسويف ... مثل هذا الدرس، يجب أن يظل ماثلاً في رؤوس الجميع وأذهانهم، خصوصاً في رام الله.
رابع هذه الدروس، أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم ... صحيح أن مواقف معظم الدول العربية إن لم نقل جميعها، راوحت ما بين الصمت والتقصير والعجز والتواطؤ، لكن الصحيح كذلك، أن الرأي العام العربي والدولي، استيقظ على هول المجازر والمذابح، وخرج في أوسع حملات التضامن مع شعب فلسطين ومقاومة غزة، وانتعشت الآمال من جديد، بعزل إسرائيل ونزع الشرعية عنها، وإخضاعها للمحاسبة والمساءلة، وتدفيعها ثمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي قارفتها.
خامس هذه الدروس، أن الحرب أظهرت، وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن القضية الفلسطينية فوق المحاور والمعسكرات العربية المتحاربة وعابرة لها ... لا مصلحة للفلسطينيين في الانحياز لمحور، ولا يجوز لهم أن يفعلوا ذلك، تحت أي ظرف أو إغراء أو تهديد، وثمة فرصة لإقناع “الإخوة الأعداء” في القاهرة والرياض وأنقرة وطهران ودمشق وبغداد، بأن فلسطين، فوق حساباتهم ومحاورهم، ولن تكون سداً أو جداراً يباعد ما بينهم، بل جسراً للوصل والتواصل والتوفيق... الانحياز لمحور كارثة على الشعب الفلسطيني، ثبت ذلك في الكويت ودمشق والقاهرة، والمصلحة تقتضي التعالي على الانقسامات والاستقطابات العربية، أياً كانت أسبابها ومبرراتها.
سادس هذه الدروس، يستطيع الفلسطينيون أن يأخذوا من كل عاصمة ومحور، ما بمقدوره أن يقدمه، وثمة فرص كبيرة في هذا المجال، يمكن توظيفها لصالح الشعب الفلسطيني وخدمة قضيته الوطنية ... لكن الفلسطينيين بحاجة لاستراتيجية جديدة، تنهض على فكرة الاعتماد على الذات، فالذين ابتدعوا كل أساليب وأشكال الصمود في غزة / الحصار، والذين ابتدعوا كل صنوف السلاح والمفاجآت وعناصر المقاومة والثبات، برغم قسوة الحصار وشدته، يرشدوننا اليوم، إلى سبيل الاعتماد على الذات، لا الانكفاء عليها، وثمة كثير من الكلام الذي يمكن أن يقال في هذا المضمار.
سابع هذه الدروس، ويتصل بما يمكن تسميته “حرب الصورة”، ففي ثورة الاتصالات والمعلومات والإعلام على اتساعه، فإن كسب الحرب يرتبط بالانتصار في “معركة الصورة”، والفلسطينيون أظهروا خبرة واسعة ومتراكمة في “حرب الصورة”، خصوصاً حين يتصل الأمر، بمخاطبة الرأي العام العربي، لكن أوجه التقصير ما زالت عديدة، حين يتعلق الأمر، بكسب الرأي العام الدولي، هناك كثير من الاهتمام والاستثمار اللذين يجب أن يبذلا في هذا الميدان.
ثامن هذه الدروس، ويتعلق بعناصر قوة وضعف الطرف الآخر، وفي هذه الحالة إسرائيل، التي تمتلك أحد أعتى جيوش العالم وأحدثها تسليحاً وتفوقاً، فضلاَ عن الاقتصاد القوى والملاءة المالية العالية... بيد أنه تفتقر للجبهة الداخلية المتماسكة والصلبة، هنا نقطة ضعف أو كعب أخيل دولة الاحتلال ومجتمع الاستيطان، وعلى أية استراتيجية فلسطينية مقبلة، أن تضغط على هذه الخاصرة الرخوة، وأن تضغط عليها بقوة، وأطول فترة ممكنة لأنها وحدها الكفيلة، بقلب الحسابات رأساً على عقب.
تاسع هذه الدروس، ويمكن أن نطلق عليه تعبيراً شهيراً للراحل ياسر عرفات: “ديمقراطية غابة البنادق”، فالتعددية الفلسطينية إن أحسنت إدارتها واستثمارها وتوظيف شبكة مواردها وعلاقاتها، يمكن أن تكون عنصر قوة حاسم، ورصيد إضافي لكفاح الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال، شريطة أن تكون بوصلة الجميع متجهة صوب هدف واحد: الحرية والاستقلال ... وهذا يستدعي التخطيط لاستثمار أقوى ما في علاقات وتحالفات “التعددية الفلسطينية”، طالما أنها تصب في المصلحة الوطنية.
عاشر هذه الدروس، يتعلق بالشراكة في الإدارة والقيادة الجماعية في إدارة وتدبير الشأن العام، سلماً وحرباً ... لقد آن أوان إنهاء مظاهر تفرد فتح بالسلطة والمنظمة، وذيول استحواذ حماس على السلطة في غزة ... آن الأوان لمغادرة معادلة “النجم والأجرام التي تدور في فلكه”، وصولاً لقيادة جماعية وعقلية تشاركية، عندها سنصبح أمةً واحدة لا يغلبها غلاَّب” و”ثورة حتى النصر”.