عريب الرنتاوي
نشرت صحيفتا “الأخبار” اللبنانية و”الشرق الأوسط” اللندنية بالأمس، تقريرين هامين عن “الحالة الجهادية” في سوريا، الأول جاء بعنوان “الأردنيون في النصرة ...”، والثاني نُشر تحت عنوان “منع أكثر من تسعة آلاف شاب تونسي من التوجه إلى سوريا” ... التقرير الأول، استعرض “المكانة القيادية” التي يحتلها جهاديون أردنيون في قيادة “النصرة” ميدانياً وشرعيا”، وتوقف أمام ظروف وملابسات تشكل هذه الظاهرة، والثاني، عرض لكلمة وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو التي تضمنت هذه المعلومة، كما استعرض بعض خلاصات دراسة حول “هوية” هؤلاء “الجهاديين” من أمكن له التوجه إلى سوريا، ومن نجحت السلطات في منعهم من السفر، والظروف التي لابست تجنيدهم.
ما يستوقف القارئ لهذين التقريرين، أنهما يؤكدان معلومات سبق وأن جرى ترديدها مراراً في تقارير ودراسات أمنية وبحثية سابقة، وضعت جميعها تونس والأردن في مكانة متقدمة (الموقعين الثاني والثالث في الغالب) من حيث أعداد الجهاديين من البلدين، الذين التحقوا بالصراع الدائر في سوريا واستتباعاً إلى العراق، بعد أن نجح “داعش” في تشكيل دولته/ خلافته، من أراضٍ شاسعة مقتطعة من أكبر دولتين مشرقيتين، متجاوزاً حدود سايكس – بيكو.
ثمة أسئلة عديدة تثيرها هذه التقارير المتواتر، “تتحدى” كثيرا من “النظريات” والفرضيات” التي بحثت في أسباب انتشار وتفشي ظاهر السلفية الجهادية وسطوح نجم داعش وأخواتها في العامين الأخيرين على وجه التحديد، الأمر الذي يجدد الحاجة لإمعان الدراسة في هذه الظاهرة، وعدم الركون إلى ما هو سائد ومألوف و”دارج” من قراءات وتحليلات.
فالنظرية التي تقول بأن انسداد آفاق المشاركة السياسية وتعطيل عمليات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في بلداننا كانت سبباً رئيساً في انتعاش الظاهرة، بحاجة إلى “تعميق”، ولا نقول “تحييد” أو “تفنيد” ... ذلك أن تونس، ثاني أكبر مصدر للجهاديين، هي أكثر التجارب العربية تطوراً على هذا الصعيد، بعد أن كانت “أول الثورة” و”أول الدولة” في زمن الربيع العربي ... والأردن، بالرغم من أنه لم يشهد اختراقات على دروب الإصلاح السياسي والدمقرطة منذ استئناف الحياة البرلمانية قبل ربع قرن، إلا أنه بكل مقاييس المنطقة/ الإقليم، يعد من بين الدول التي تتمتع بقدر معقول من الحريات والديمقراطية النسبية (أشدد على نسبية) بمعنى جزئية .... فلماذا تتكاثر أعداد الأردنيين والتونسيين الذين يلتحقون بساحات الجهاد العالمي، في الوقت الذي لا نرى ارتفاعاً مماثلاً في منسوب الظاهرة في دول تفتقر للحريات وتكاد قنوات المشاركة السياسية فيها، تشهد انسداداً مزمناً؟
والفرضية التي تربط “الجهاد” بالفقر والبطالة، يجب أن تُمتحن كذلك من جديد، وأن يجري “تعميقها” و”تطويرها”، وهنا أيضاً لا نقترح إسقاطها أو تفنيدها ... ذلك أن البلدين المذكورين لا يتقدمان الدول العربية الاثنتين والعشرين في لائحة الأكثر فقراً والأكبر بطالة ... كما أن دولاً سبقتنا مالياً واقتصادياً، سبقتنا كذلك على لائحة الدول المصدرة للجهاد والجهاديين، كالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال لا الحصر، والمؤكد أن ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل في العالم العربي، ليسوا جميعاً أو في أكثريتهم، “مجاهدين” أو “مشاريع انتحاريين وانغماسيين” ... لا بد من قراءة أكثر تعقيداً للظاهرة.
في الدراسة التونسية التي تضمنها تقرير “الشرق الأوسط”، والتي لم نتمكن من الاطلاع عليها بعد، ثمة إشارات إلى “مصادر تجنيد الجهاديين” و”معامل تفريخهم”، وغالبيتهم من فئة عمرية تتراوح ما بين 13 – 17 سنة... هنا يؤتى على ذكر المساجد والمدارس الدينية و”خيام الدعوى” وشبكات الوعاظ والواعظات، خصوصاً في المناطق النائية البعيدة إلى حد ما، عن رقابة الدولة ومؤسساتها الدينية والفكرية والثقافية والأمنية ... كما يشار إلى “السجون” بوصفها “معاهد” لتخريج وتدريب الكوادر والقيادات الجهادية، وربما هذا ما حدا بفرنسا إلى تقرير الحبس الانفرادي لمعتقلي الجماعات الجهادية، وهذا ما حدا بدول أخرى إلى تخصيص معازل لهؤلاء المساجين لمنع احتكاكهم بآخرين، أو لمنع تحويل السجون إلى “غرف عمليات” كما حصل في المبنى (ب) في سجن رومية اللبناني الشهير، والذي كان على اتصال دائم بالموصل والرقة ومخيم عين الحلوة؟!
الخلاصة الأولى والأهم، التي يمكن استنباطها من كل ما قرأنا على أسباب تشكل هذه الظاهرة وتفشيها، تقترح أولاً، ودائماً، فشل الدولة العربية الحديثة في إنجاز “عقد اجتماعي” مع مواطنيها يحفظ منظومة الحقوق والحريات والواجبات، ويفعّل مواطنتهم الكاملة ... ويرى ثانياً، أنه لا بد من تضافر جملة عوامل، لا عامل واحد، لتشكيل هذه الظاهرة، فلا الفقر والبطالة يدفعان بهذا الاتجاه إن لم يلتقيا مع نشاط محموم لـ “بنية تحتية”جهادية – دعوية صلبة توظف وتجند وتعبئ، ولا انفتاح النظام السياسي يمكن أن يكون سبباً كافياً لمنع انتشار هذه الظاهرة، إن لم تتصد الدولة بمختلف مكوناتها لمهماتها بثبات وديمومة، لا الأمنية منها فحسب، بل والفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتربية والإعلامية ... فهذه بالأساس، حرب لكسب العقول والقلوب، والتطرف لا يجابه بتطرف مقابل، والإرهاب المغلف بلبوس الدين، لا يمكن أن يكافح بإرهاب يستظل بـ “سيادة القانون” كما حصل ويحصل في عدة دول عربية، ومنذ زمن “العائدين من أفغانستان”.
مثل هذه المعطيات (والوقفات) ضرورية عند صياغة استراتيجية وطنية لمحاربة التطرف والغلو والإرهاب ... ومثل هذا الوعي الشمولي بالظاهرة من مختلف جوانبها، وبكل تعقيداتها، هو شرط نجاح هذه الاستراتيجية في تحقيق أغراضها.