الدولة المدنية  هنا وهناك

الدولة المدنية ... هنا وهناك

الدولة المدنية ... هنا وهناك

 تونس اليوم -

الدولة المدنية  هنا وهناك

عريب الرنتاوي

ليست الدولة المدنية – الديمقراطية التي شاع الحديث عنها وكثرت المطالبة بها، نقيضاً لدولة “العسكريتاريا” فحسب، بل هي نقيض “الدولة الدينية” كذلك، ولأنها كذلك، فهي علمانية بالضرورة، تبقي للسياسة فضاءها وللدين فضاءه ... و”الدولة الدينية” ليست بالضرورة دولة “إكليروس” أو “كهنوت” كما يجادل ممثلو بعض الحركات الإسلامية، إذ “لا إكليروس في الإسلام”، فقد تكون الدولة دينية بامتياز، ويديرها رجال من خارج سلك “رجال الدين”.
ونقول علمانية، ليس بالمعنى الدارج والمبتذل للكلمة، الذي يذهب إلى إحداث تماثل مفتعل بين العلمانية والالحاد أو بين الأولى والكفر بالديانات السماوية والخروج عنها ... فالعلمانية هنا مذاهب ومدارس، كما الحركات الدينية على اختلاف وتعدد مرجعياتها، على أن العلمانية الرائجة اليوم، هي العلمانية المتصالحة مع الأديان، الضامنة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر والعبادات، من دون مزج أو خلط بين الفضائين السياسي والديني.
والعلمانية وحدها لا تنتج دولة ديمقراطية أو نظاماً مدنياً، فثمة أنظمة قمعية، فاشية، قومية أو يسارية توتاليتارية، تصنف في عداد “العلمانية”، ولقد شهد الشرق والغرب والعالم العربي، أنماطاً من العلمانية المتطرفة أو المتوحشة، وتجارب فاقت التوقعات في درجة ومستوى فسادها واستبدادها ... لكن النظام السياسي، في دولة متعددة بالأخص، لن يكون ديمقراطياً ومدنياً، ما لم يكن علمانياً.
في السنوات العشر الأخيرة (وربما أكثر) راجت أطروحة الدولة المدنية – الديمقراطية، بوصفها “طريق الخلاص” من أنظمة الركود والاستبداد والاستنقاع ... وبدأ أنها أطروحة جامعة لمختلف تيارات الفكر والسياسة في المجتمعات العربية ... لكن الحفر في عمق الأطروحة وتطبيقاتها اللاحقة،خصوصاً في سنوات الربيع العربي الأربع، أظهر بالملموس أننا أمام “شعار مُضلل” يخفي من الخلاف والانقسام، أكثر مما يستبطن من المشتركات ونقاط الالتقاء، فالإسلاميون (معظمهم على الأقل) لا يرون تضارباً بين “دولتهم المدنية – الديمقراطية” من جهة وإصرارهم على تطبيق الشريعة من جهة ثانية، وهم في ذروة الحماس للدولة المدنية – الديمقراطية، لا يكفون عن “هجاء” العلمانية والعلمانيين بأقذع الصفات، وأحياناً بإخراجهم من الملّة وتكفيرهم وهدر دمائهم.
وتظهر تجارب عربية حديثة ومعاصرة، حقيقة لا يرغب كثيرون في الاعتراف بها ... فالسودان ما كان ليتعرض للانقسام بين شمال وجنوب، دع عنك الانقسامات اللاحقة، لولا الزج بالدين بالسياسة والحكم، ما أدى إلى شعور قسم كبير من أبناء البلاد ومواطنيها، بأن الدولة ليست دولتهم، وأنهم مواطنون من درجة ثانية فيها ... والعراق تشظي بعد أن دخلت “المرجعيات الدينية” والأحزاب الطائفية على مؤسسة الحكم في بلاد تتميز بتنوعها الكبير، قومياً ودينياً ومذهبياً وعرقياً ... وسوريا تشهد اليوم وغداً، وضعاً مماثلاً ... ومصر كانت على شفير انقسام أهلي عميق مع صعود جماعة الإخوان إلى سدة الحكم بخطابها الديني، الذي استبعد منذ اللحظة الأولى، قطاعاً مهماً من المصريين، لا يقتصر على أقباطها وحدهم، بل وعلى مصريين مسلمين ينتمون لمدارس فكرية وسياسية “لا دينية”.
تركيا التي انتهجت منذ أتارتوك، خطاً علمانياً متطرفاً وإقصائياً، ما كان لحركتها الإسلامية (أو ذات المرجعية الإسلامية كما يفضلون القول)، إن تتصدر الصفوف وإن تصل إلى مختلف مفاصل السلطة، لولا إقرارها بالعلمانية أساساً لنظام الحكم، وتذكروا نصائح أردوغان للمصريين في أول زيارة لهم بعد نجاح الدكتور محمد مرسي في الانتخابات المصرية ... لكن جنوح العدالة والتنمية إلى خطاب ديني، مذهبي، سنّي في جوهره ومضمونه، يضع تركيا اليوم، أمام تحديات حفظ وحدتها وصون نسيجها الاجتماعي، إذ قبل أن ينجح الحزب الحاكم في إغلاق ملف المسألة الكردية، نراه يواجه اليوم، “مسألة علوية”، وهذه نتائج منطقية لسياسات وممارسات وتشريعات، تضرب مبدأ “حيادية” الدولة والسلطة والتشريع حيال مختلف المواطنين والمكونات، أما تجربة “ولاية الفقيه”، فهي محمّلة بالدلالات على تعذر، حتى لا نقول استحالة، بناء الدولة المدنية – الديمقراطية، دولة المواطنة المتساوية لجميع أبنائها، في ظل الاحتكام لمعيار الدين والمذهب والطائفة، في تصنيف المواطنين وتقرير حقوقهم وواجباتهم.
لدينا شاهد آخر على ما نقول، وهو ما يجري في إسرائيل منذ عدة سنوات ... يهودية الدولة على سبيل المثال، لا يمكن أن تنسجم بحال مع “ديمقراطيتها”، فالأولى تميز بين المواطنين على أساس الدين، والثانية تقوم على فكرة المواطنة المتساوية والفاعلة، والأمران لا يستقيمان، مهما بلغت براعة “اقرأ مراوغة” القائمين على تسويق الفكرة وتسويغها ... يهودية الدولة تؤسس لنظام عنصري كما نقول جميعاً، بمن فينا أصحاب نظرية “الدولة الدينية” أو أنصار “تطبيق الشريعة”، فكيف يمكن لنظرية أن تنتج نظاماً عنصرياً هناك، وأن تؤسس لدولة “العدالة والحكم الرشيد” هنا؟
يهودية الدولة، ليست أطروحة جديدة في الفكر الصهيوني، فقد رافقته منذ مؤتمر بال 1897، بيد أنها ظلت تستخدم كأداة لتشجيع الهجرة وبناء الكيان وتأسيس “هوية جمعية”، أما اليوم، فإن يهودية الدولة في السياق الإسرائيلي الراهن الذي تميز بصعود الأصولية اليهودية وتنامي دور الإيديولوجيا القومية المتطرفة، تتحول إلى مدخل لتعميق العنصرية، وتضع إسرائيل لأول مرة، أمام تحدٍ وجودي، قد يكون الأخطر في تاريخها (القصير على أية حال).
علمانية إسرائيل، ساعدتها في إشاعة الوهم في الغرب بأنها الدولة الوحيدة التي تشترك معه في منظومته القيمية، فكان أن تم بناء الكيان في العشريات الثلاث أو الأربع الأولى من عمره، على شاكلة الغرب وطرازه، وهذا ما وفر قوة دعم وإسناد له، في مواجهة بداوة الصحراء العربية القاحلة، أليست هذه الفكرة هي جوهر الدعاية الصهيونية التاريخية؟
أما يهودية الدولة، فإنها تعيد تشكيل إسرائيل على صورة المجتمعات المختلفة، أو على حد تعبير صديقي الدكتور حسين أبو النمل، وهو من أهم من قرأ وكتب في الشأن الإسرائيلي، تعيد إنتاج نفسها على صورتنا وشاكلتنا في هذه المنطقة، التي طلقت الحداثة والعقلانية، وتخلفت عن ركب العصر وروحه ... الأمر الذي يدفع للتنبؤ بأنها سائرة إلى سلسة من الأزمات الوجودية، لا في علاقاتها مع الغرب فحسب، بل وفي منظومة علاقاتها الداخلية والبنيوية كذلك، دع عنك صراعها الوجودي مع الفلسطينيين ومن خلفهم ملايين العرب والمسلمين وحلفائهم.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة المدنية  هنا وهناك الدولة المدنية  هنا وهناك



GMT 07:51 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

السائح الدنماركي... وجولة المستقبل الخليجي

GMT 07:49 2021 الإثنين ,13 كانون الأول / ديسمبر

حجر مصر

GMT 08:29 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في أحوال بعض القوى السياسيّة في لبنان

GMT 08:27 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

في بلد استضاف عبد العزيز

GMT 08:42 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

الدولة الوطنية العربية وتنازُع المشاهد!

GMT 08:36 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

تركيا تشن حرباً اقتصادية من أجل الاستقلال!

GMT 08:33 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

إيران: تصدير النفط أم الثورة؟

GMT 08:30 2021 السبت ,11 كانون الأول / ديسمبر

براً وبحراً والجسر بينهما

GMT 04:41 2024 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الكشف عن فوائد مذهلة لحقنة تخفيف الوزن الشهيرة

GMT 19:19 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

مراهق فلبيني يدخل فرّامة كفتة لتنتهي حياته

GMT 20:36 2021 الثلاثاء ,19 كانون الثاني / يناير

أفضل أنواع وتصميمات الأحذية الرياضية وطرق العناية بهما

GMT 05:00 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

مجلس الشيوخ الأميركي يقر تعيين أول مسؤول في إدارة بايدن

GMT 05:13 2019 الثلاثاء ,05 شباط / فبراير

نظام غذاء سري لأكبر أنواع أسماك القرش في العالم

GMT 06:08 2021 الأحد ,31 كانون الثاني / يناير

مانشستر سيتي يعزز صدارته بفوز شاق على شيفيلد يونايتد

GMT 12:01 2018 الإثنين ,03 أيلول / سبتمبر

رونار وفكر الثوار

GMT 19:05 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك

GMT 10:09 2021 الجمعة ,02 إبريل / نيسان

Isuzu تتحدى تويوتا بسيارة مميزة أخرى

GMT 18:28 2017 الثلاثاء ,11 تموز / يوليو

مجلس الشعب السوري ينفي إصدار بطاقات هوية جديدة
 
Tunisiatoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday Tunisiatoday
tunisiatoday tunisiatoday tunisiatoday
tunisiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
tunisia, tunisia, tunisia