كلمة شيخ الأزهر أمام البرلمان الألماني فيها الكثير مما يستحق التوقف أمامه.
حين قرأتها ثم قرأت ما قيل عنها باللغة الإنجليزية تبين لى أننا قد نستطيع أن نجدد الخطاب الدينى فى ألمانيا بأسهل وأسرع من تجديده فى مصر. وأقصد بالتجديد أن نعود بالخطاب الدينى إلى أصوله الأولى مستصحبين معنا قول الفقهاء «إن صحيح المنقول لا بد وأن يتفق مع صحيح المعقول». فالعقل مناط التكليف، ولولا أننا عقلاء لما حمّلنا الله سبحانه وتعالى أمانة التكليف.
قوى التجديد فى مصر ضعيفة ومتشرذمة، وقوى ممانعة التجديد فى مصر قوية ومتحدة. لا يمكن أن يكون هناك تجديد بدون مجددين. ولكن أين هؤلاء المجددون الذين يدعمون خطاباً مثل الذى تبنّاه شيخ الأزهر فى ألمانيا؟.
قال شيخ الأزهر كلاماً مهماً عن ارتباط الإسلام بالأديان السماوية الأخرى:
«هذا الدين دين مرتبط بالأديان السماوية برباط عضوى لا ينفصم؛ فنحن المسلمين نؤمن بأن كلاً من التوراة والإنجيل والقرآن، هُدى ونور للناس، وأن اللاحق منها مصدق للسابق، ولا يتم إيماننا بالقرآن ولا بمحمد إلا إذا آمنا بهذه الكتب السماوية وبموسى وعيسى وبمن قبلهم من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، ونقرأ فى القرآن قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»، (البقرة، آية 26).
وفصّل شيخ الأزهر فى علاقة الإسلام بالحرب:
«وليس صحيحاً ما يقال عن الإسلام من أنه دين قتال أو دين سيف، فلفظة «السيف» هذه ليست من ألفاظ القرآن ولم ترد فيه ولا مرة واحدة.. ويؤمن المسلمون بأن الله أرسل محمداً رحمة للعالمين، وليس رحمة للمسلمين فحسب، بل أرسله الله رحمة للإنسان والحيوان والجماد والنبات، جاء فى القرآن الكريم «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»، وقال محمد عن نفسه: «أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة»، ومن يفهم تعاليم هذا النبى خارج إطار الرحمة العامة والسلام العالمى، فهو جاهل به وبتعاليمه ومسىء إليه.
والإسلام لا يبيح قتال غير المسلم بسبب رفضه للإسلام أو لأى دين آخر، فالله كما خلق المؤمنين خلق غير المؤمنين أيضاً: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»، (التغابن)، وما خلق الله غير المؤمنين ليأمر بقتلهم واستئصالهم، فهذا عبث لا يليق بحكمة البشر، فضلاً عن الحكمة الإلهية، وحريةُ العقيدة مكفولة فى القرآن بنص صريح، وذلك فى قوله تعالى: «فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: 29). وقوله أيضاً: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ» (البقرة: 256)، وجاء فى الدستور الذى بعث به النبى صلى الله عليه وسلم إلى اليمن: «مَنْ كَرِهَ الْإِسْلَامَ مِنْ يَهُودِى وَنَصْرَانِىٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ عَنْ دِينِهِ»، ولم يسجل التاريخ عن المسلمين فى البلاد التى حكموها حالة واحدة خيَّروا فيها أهل البلاد بين اعتناق الإسلام أو السيف، بل كانوا يُقِرُّون أهل هذه البلاد على أديانهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولا يرون بأساً من العيش بجوارهم والاختلاط بهم والتزاوج معهم».
وفصّل شيخ الأزهر فى مبادئ الشريعة الإسلامية العليا:
«وشريعة الإسلام شريعة مؤسسة على مبادئ العدل والمساواة والحرية وحفظ كرامة الإنسان، وقد أعلن نبى الإسلام مبدأ المساواة بين الناس فى زمن لم يكن قد نضج فيه العقل البشرى لأن يستوعب فحوى هذا المبدأ أو يتصوره، لأنه لم يكن يعرف مجتمعاً غير مجتمع الطبقية والعبيد والسادة، ورغم ذلك أطلق محمد صلى الله عليه وسلم صرخته الخالدة: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمِشْطِ»، ولم تمضِ على وفاة النبى عشر سنوات حتى جاء الخليفة الثانى عمر بن الخطاب ليصرخ هو الآخر فى وجه أحد الولاة المسلمين، وهو يُعنِّفه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟».
وتحدّث عن المرأة فى الإسلام قائلاً:
«أما المرأة فهى فى شريعة الإسلام شريكة الرجل فى الحقوق والواجبات، وبتعبير نبى الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»، ولا تظنوا أيها السادة أن بعض ما تعانيه المرأة الشرقية من تهميش هو بسبب تعاليم الإسلام، فهذا زعم باطل، والصحيح أن هذه المعاناة إنما لحقتها بسبب مخالفة تعاليم الإسلام الخاصة بالمرأة، وإيثار تقاليد عتيقة وأعراف بالية لا علاقة لها بالإسلام، وتقديم هذه التقاليد على الأحكام المتعلقة بالمرأة فى الشريعة الإسلامية وقد فقد المجتمع المسلم كثيراً من طاقاته الخلاقة والإنتاجية حين سَمَحْنا -نحن المسلمين- بتهميش دور المرأة وإقصائها عن مواقع التأثير فى مجتمعاتنا الشرقية».
ثم تحدّث عن التعددية الإنسانية قائلاً:
«التعددية بين الناس واختلافهم طبيعة قررها القرآن الكريم، ورتب عليها قانون العلاقة الدولية فى الإسلام، وهو «التعارف» الذى يستلزم بالضرورة مبدأ الحوار مع من نتفق ومن نختلف معه، وهذا ما يحتاجه عالمنا المعاصر -الآن- للخروج من أزماته الخانقة، ومن هنا كان من الصعب على المسلم أن يتصور صَبَّ الناس والأمم والشعوب فى دين واحد أو ثقافة واحدة، لأن مشيئة الله قضت أن يخلق الناس مختلفين حتى فى بصمات أصابعهم، يقول القرآن: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»، والمؤمن بالقرآن لا يرتاب فى أنه ليس فى إمكان قوة ولا حضارة أن تُبدّل مشيئة الله فى اختلاف الناس، وينظر إلى النظريات التى تحلم بجمع الناس على دين واحد أو ثقافة مركزية واحدة نظرته إلى أحلام اليقظة أو العبث الذى يُداعب أحلام الطفولة. ومن هنا كان من الطبيعى والمنطقى أن ينفتح الإسلام على المسيحيين واليهود انفتاحاً لافتاً للنظر، ويمد معهم من جسور العيش المشترك والسلام المتبادَل ما يصل إلى إقرار زواج المسلم من مسيحية أو يهودية تبقى على دينها مع زوجها المسلم، ولا يجوز لزوجها المسلم أن يحول بينها وبين الذهاب إلى كنيستها أو معبدها، أو يمنعها من ممارسة شعائرها فى بيت زوجها المسلم».
ثم تحدّث عمن يسيئون للإسلام بالقتل والنحر:
«ولعل بعض حضراتكم -أيها السادة النواب المحترمون!- يتهامس مُعترضاً على ما أقول، أو مُتسائلاً مُستنكراً فيما سمع: إذا كان الإسلام والمسلمون بهذه الصورة الوردية المضيئة، فكيف خرجت الحركات الدينية المسلحة من عباءة الإسلام والمسلمين، مثل «داعش» وأخواتها، تقتل وتدمر وتقطع الرقاب باسم الله وباسم الإسلام وشريعته؟ ألا تهدم هذه المشاهد اللاإنسانية المرعبة كل ما قلته عن الإسلام من أنه دين السلام والأخوة الإنسانية والتراحم بين الناس؟
وإجابتى على هذا السؤال -باختصار- هى: لو أن كل دين من الأديان السماوية حُوكِم بما يقترفه بعض أتباعه من جرائم والقتل والإبادة لما سلم دين من الأديان من تهمة العنف والإرهاب، ذلك أن الإرهابيين الذين يمارسون جرائمهم باسم الأديان لا يمثلون هذه الأديان، بل هم -فى حقيقة الأمر- خائنون لأمانات الأديان التى يزعمون أنهم يقاتلون من أجلها».
هذا الكلام فى خطاب شيخ الأزهر هو أهم ما ينبغى أن يعرفه المسلم المعاصر عن دين الله، بالإضافة لأمور العقيدة والعبادات والمعاملات. أتمنى أن ننجح فى إثارة هذه القضايا والكلام فيها بوضوح فى مجتمعنا، وأن يزداد من يتبنون هذه الأفكار من قادة الرأى والفكر فى مصر.